لما كانت ماهية حكامة الهجرة اعتبارية وليست حقيقية، لما تستلزمه من آليات ومقومات وسبل ومؤسسات لتجسيد حقوق الإنسان اللصيقة بكينونته أينما حل وارتحل، فلا يكون التعريف وحده وافيا بالكشف والتوضيح إلا عند تأصيله حسب مصادره القانونية، إذ ذاك لا تبقى المفاهيم مجردة بل تولد البحث عن نموذج للحكامة وفق المشروطية الدولية التي تخص الفرد وتحميه في حياته اليومية، بوصفه عضوا من أعضاء الأسرة البشرية يتطلع إلى حياة ينعم فيها بالحرية والكرامة، وهذه الحقوق عالمية، بمعنى أنها تتعلق بجميع أفراد البشر دون تمييز، وبدون أي اعتبار لموقعهم الجغرافي أو لخصائصهم،أو لجنسياتهم، أو لانتمائهم إلى معتقد أو بلد معين، وهي حقوق موجهة إلى الجميع، وتؤكد تأكيدا قطعيا انتماء الجميع إلى بشرية عالمية.
ولهذا خص القانون الدولي لحقوق الإنسان فئة المهاجرين بتوفير آليات قانونية وتنظيمية ومؤسساتية لحمايتهم باعتبارهم المتغير الأصلي المتحكم في حكامة الهجرة، وحرصا منه على إسعادهم في نطاق الحرية الملتزمة بالضوابط القانونية ذات الشرعية، ويتولى القضاء والآليات التعاقدية وغير التعاقدية مسؤولية مراقبتها، وهذا ما يصب في معاني حكامة الهجرة التي تستلزم تكامل عمل الدولة ومؤسساتها والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني.
فلا يمكن أن نتحدث عن الحكامة دون تكريس المشاركة والمحاسبة والشفافية، فحكامة الهجرة في مفهومها القديم تدل على آليات ومؤسسات تشترك في صنع القرارات التي تتخدها أثناء ممارسة السلطة السياسية وادارة شؤون المجتمع حيث الهجرة من أهم موارده، وذلك حسب ما تدعو إليه الأمم المتحدة وتروج له المنظمات والوكالات الدولية المختلفة، أما في مفهومها الحديث فهي لا تتم إلا في ظل الديمقراطية[1] و تفعيل مبادئ حقوق الإنسان بل جعلها سلوكا وممارسة بمجتمع مدني فاعل[2].
فمنذ عقدين طرأ تطورعلى هذا المفهوم وأصبح يعني حكم أو تدابير رشيدة تقوم بها قيادات سياسية منتخبة وأطر إدارية كفأة لتحسين نوعية حياة المواطنين[3] و-نحن نضيف- وكل الأفراد المتواجدين على ترابها وتحقيق رفاهيتهم، وذلك برضاهم وعبرمشاركتهم ودعمهم، ذلك أن المهاجر يعد فردا يحضى بحماية خاصة إن لم يكن يشكل خطرا على النظام العام للبلد المستقبل، وحكامة الهجرة في هذا الإطار تستوجب وجود نظام متكامل من المحاسبة و المساءلة السياسية إن على المستوى الخارجي بين الدول بما يؤطرها من اتفاقيات دولية أوعلى المستوى الداخلي وما سطره المشرع في دستور الدولة.
ولا يمكننا النظر إلى هذا القانون باعتباره علاجا شاملا في هذا السياق[4]، فبعض البلدان تتبنى التدابيرالضرورية لحماية كل فرد تواجد على أراضيها، إلا أنه لا تزال العديد من الدول تعتمد الآليات الدولية بأفق ضيق، بل تلحق الضرر بالمهاجرين ومنها بعض البلدان التي لم توقع لحد الآن على اتفاقية حماية العمال المهاجرين وأفراد أسرهم لسنة 1990، وهو الأمر الذي يحتاج نوعا من الحكامة لتدارك هذا التقصير ولوضع المعايير الدولية على المحك، خاصة وأن العالم يعرف انتهاكات في حق المهاجرين من طرف بعض الدول، مما يزيد من اتساع الفجوة بين التأصيل النظري لحقوق المهاجرين وواقع التعامل الدولي، ثمة تحديات كبيرة لا زالت تقف حائلا أمام قيام الآليات القانونية والقضائية الدولية بدورها في التخفيف من آثار وتداعيات مشكلات المهاجرين، وهذه التحديات تتعرج على ما هو سياسي تحكمه الظرفية التي طغى عليها التطرف وكراهية الأجنبي، إلى ما هو اقتصادي خاصة مع إغلاق الحدود بسبب وباء كورونا منذ مارس 2020 إلى جانب مرور العالم بأزمة خانقة أدت إلى فقدان مواطني البلد لعملهم فبالأحرى المهاجرين مما مهد لظهور العنصرية وأحيانا تفكك الكيانات الدولية ونشوب النزاعات المسلحة.
*أستاذة باحثة في سلك الدكتوراه
هوامش:
[1] http://www.rezgar.com\debat\show.art.asp?aid=28387: ادريس ولد القابلة، الحكامة (الادارة الرشيدة)، الحوار المتمدن، العدد 1052- 2004 راجع الرابط التالي
[2] ناظم عبد الواحد الجاسور، موسوعة المصطلحات السياسية والفلسفية والدولية، طبعة ثانية دار النهضة العربية، بيروت 2011، ص 539.
[3] عبد الحق دهبي، الحكامة القضائية، المجلة القانونية الرقمية، العدد التاسع عشر، ص: 69
[4] عبد الله اشخلف، اللاجئ في القانون الدولي والقانون الوطني، بحث لنيل دبلوم في القانون العام، ماستر حقوق الانسان، السنة الجامعية 2016-2017، ص:8.
رائع