منذ أن أخذ المغرب استقلاله و تخلص من الاستعمار الفرنسي سنة 1956 م، أولت الدولة و مازالت تولي اهتماما كبيرا بمجال التربية و التعليم، و ذلك رغم الصعوبات الاقتصادية و الاجتماعية التي عانى منها المغرب في القرن الماضي و بداية الألفية الثالثة.
و منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين، مر النظام التعليمي بالمغرب بعدة إصلاحات بهدف تقليص الفوارق في التعلم و ضمان نشر التعليم بين صفوف أبناء الشعب المغربي، فكان المنطلق سنة 1963م، بإلزامية التعليم للمتعلمين الذين تتراوح أعمارهم بين 07 و 13 سنة . و في سنة 1990م ، أعيدت هيكلة المنظومة التعليمية سواء في التعليم الأساسي أو التعليم الإعدادي و الثانوي . و مع مطلع القرن 21 جاء الميثاق الوطني للتربية و التكوين، في ظل ظرف سياسي خاص و انتقال جزء أساسي من المعارضة إلى المشاركة في الحكومة و إعداد الميثاق سنة 1999م عبر مشاركة كل الأحزاب و النقابات في اللجنة الخاصة للتربية و التكوين لصياغة مرتكزاته و مبادئه أملا في إنجاح الإصلاح .
و قد تم بحق، الحرص في صياغة المبادئ الأساسية للميثاق على الرفع من وتيرة الإصلاح و تجديد مجالاته، من خلال توخي الدقة و الوضوح في إصدار القرارات مع الاستحضار الدائم لضرورة التوفيق بين ما هو مرغوب فيه و ما هو ممكن التطبيق في انسجام تام مع الخصوصيات الوطنية. و من هنا، جاءت دعامات التغيير في صيغة مقترحات عملية مضبوطة التطبيق و آجال التنفيذ تتوخى نشر التعليم و تعميمه على فئات المجتمع و ربطه بالمحيط الاقتصادي و التنظيم البيداغوجي مع الرفع من جودة التربية و التدريس و تثمين الموارد البشرية و تكوينها فضلا عن الاهتمام بالتسيير و التدبير التربوي و كذا تفعيل الشراكة و إيجاد التمويل اللازم للمشاريع المدرجة.
و أمام عدم تحقيق الميثاق لما كان منتظرا منه و عجزه عن الوصول إلى إنجاز أهم الرهانات و الدعامات التي سطر لها خاصة فيما يتعلق بالتعميم و الجودة، سارعت وزارة التربية الوطنية سنة 2009م إلى إنقاذ فشل الميثاق و استكمال بعض دعاماته، بمخطط استعجالي بديل و جدير بتخليص المدرسة المغربية من مشاكلها الوظيفية ووضع حد لأزماتها البنيوية العويصة و التخفيف من التعثرات العديدة التي تتخبط فيها المؤسسات التعليمية .
وبذلك، اعتبر البرنامج الاستعجالي 2009/2012 بمثابة خارطة طريق تحدد الخطوات العملية التي يجب الالتزام بها من أجل إصلاح المنظومة التعليمية المغربية و إعادة الثقة من جديد إلى المدرسة العمومية لكي تكون فعلا مدرسة النجاح و مدرسة الحداثة و مدرسة المستقبل التنموي و رصدت له بالتالي ميزانية ضخمة، فكانت الفرصة مواتية لبعث روح تربوية و تعليمية جديدة في المدرسة المغربية بجعل المتعلم و المنهاج و الموارد البشرية و البنية التحتية في قلب عجلة التغيير و الإصلاح ، لكن الغايات من هذا البرنامج لم تتحقق أيضا لسوء تدبير الموارد المالية و المادية و البشرية المرصدة حسب التقارير المنجزة في الأمر.
ثم جاءت الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 ، من أجل مدرسة الإنصاف و الجودة و الارتقاء، بثلاثة و عشرين رافعة تستجيب على الورق لمتطلبات المدرسة المغربية الحديثة، و تلبي الحاجيات الملحة للأمة من أجل إصلاح المنظومة و تأهيلها و تجديد هياكلها وجعلها تطلع مرة أخرى بأدوارها على النحو الأمثل، و جعلها مواكبة لتحولات العالم و مستجداته في العلوم و التكنولوجيا و المعارف الجديدة و التربية و التكوين و البحث العلمي و التقني و الابتكار لتعزيز تموقع المغرب ضمن البلدان الصاعدة.
و لكن و بعد كل هذه الإصلاحات التاريخية، القديم منها و الجديد، فإن المدرسة المغربية مازالت تعاني من بعض الظواهر السلبية و المقلقة التي يكاد جل الفاعلين التربويين يجمعون على تصاعد خطورتها و استفحالها بين صفوف المتعلمين اليوم، و منها على الخصوص الفشل الدراسي و التعثر المدرسي و تدني مستواهم العلمي و المعرفي، و ذلك رغم ما بذل من مجهود للحد منها أو محاولة التقليص من انتشارها على امتداد الأطوار التعليمية .
و في هذا الصدد، و تجاوزا لكل المطبات التي حالت و تحول دون أن يحقق الإصلاح أهدافه المنشودة، فإن الرؤية الاستراتيجية كفيلة برافعاتها أن تصل قبل سنة 2030 إلى الأهداف المسطرة، إيمانا منها بأن الإصلاح يجب أن ينطلق من التعليم الابتدائي، و هذا هو مربط الفرس، حيث أن هذا الطور التعليمي، يعتبر القاعدة الأساس لكل إصلاح تربوي هادف، مبني على الجودة و تكافؤ الفرص و المساواة و الإنصاف أيضا، و تيسير النجاح في هذا المسار الدراسي و التكويني المهم، مما يستدعي النهوض به أولا بالتدرج في حدود السنوات الجارية و القيام بخطوات إجرائية لتجاوز المعيقات المستقبلية في التعليم بالطوريين الإعدادي و الثانوي .
لذلك، فإذا ظلت الأعطاب المعرفية و البداغوجية و التربوية مستفحلة بشكل مؤثر في الطور الابتدائي، فإن أثر ذلك، يبقى عالقا في المسار الدراسي و التكويني للناشئة على مر الأطوار التعليمية القادمة، مما يسبب التعثر الدراسي و التكرار مستقبلا و يوسع دائرة الهدر المدرسي و الفشل في النجاح . و تتمظهر أولى هذه الأعطاب في ثلاثية المتعلم نفسه و المدرس و كذا الأسرة و المنظومة التعليمية بشكل عام .
هكذا يلاحظ كل المهتمين بالشأن التربوي، أن الفشل في النجاح و التعثر في الاكتساب المعرفي و النماء الثقافي و العلمي ما بعد الطور الابتدائي ، راجع بالأساس إلى الوسط الاجتماعي الهش و الفقر و الهشاشة و الأمراض الصحية واللاتوازن الأسري و الأمية و عدم وجود فضاء أسري مناسب للتتبع الدراسي، هذا فضلا عن صعوبة المنهاج و كثرة المواد و اللغات الدراسية، و غياب الدعم المادي و الاجتماعي للأسر المعوزة و الفقيرة .
كما نجد عدة عوامل سلبية أخرى مرتبطة بالمؤسسة التعليمية نفسها، و بالعاملين فيها تنعكس سلبا على المنتج التربوي. و بالتالي تساهم في ترسيخ هذه الظاهرة منها: غياب الاستقرار النفسي و الاجتماعي للمدرسين خصوصا لدى العاملين في المجال القروي، من نقل و ضعف الخدمات الاجتماعية و الثقافية و الترفيهية و غياب شروط العمل المهنية المريحة و انعدام الوسائل الديداكتيكية و الاكتظاظ و الأقسام المشتركة و كثرة المواد و ساعات العمل، فضلا عن غياب التأطير و المراقبة التربوية و عدم نجاعتها في حال وجودها، و يزداد ذلك سلبية أكثر مع الرغبة في متابعة الدراسة الجامعية مع ما يصاحب ذلك من تغيبات و هدر لزمن التعلم و كذا هزالة الأجرة أمام متطلبات الحياة، علاوة على انتشار الموظفين الأشباح، هذا بالإضافة إلى فشل جل الإصلاحات في منح رجل التعليم ما يستحقه من مكانة و تقدير لحقوقه و متطلباته الإدارية و العملية، حيث غياب الدعم البيداغوجي لهيئة التدريس و الإدارة التربوية على حد سواء، و كذا ضبابية البرامج و المناهج و الكتب الدراسية المعتمدة و تقادمها في بعض المواد، كما يمكن أن نضيف أيضا نقص الكفاءة و الفعالية البيداغوجية المرجوة، بسبب سوء التوظيف و غياب التكوين و التكوين المستمر للمدرسين و رجال الإدارة. و لاغرو أن وزارة التربية الوطنية بدأت توظيف مجموعة من المدرسين بالتعاقد و بدون تأهيلهم و تكوينهم تأهيلا بيداغوجيا و ديداكتيكيا، أو قد تكونهم تكوينا سريعا لا يحقق النجاعة الحقيقية و لا يعطي الثمار المرجو، داخل القسم الصفي.
و يمكن الإشارة أيضا، إلى الخصاص المهول على مستوى الأطر الإدارية خاصة في التعليم الإعدادي و التأهيلي، و إثقال كاهلها بأعباء إضافية، فضلا عن عدم تمكنها من وسائل العمل الإدارية و التربوية الكافية، و لا ننسى كذلك، الوضعية المتدهورة لبعض الفضاءات التربوية و التعليمية على مستوى البنيات و التجهيزات و كذا عدم قدرة مجموعة من المؤسسات على استيعاب العدد الهائل من المتمدرسين و الذين يتزايدون كل سنة.
و من الأسباب الأخرى كذلك، هو تراجع صورة ووظيفة المدرسة العمومية لدى المجتمع المغربي، بشكل عام من منظور جدوى التمدرس و بالأحرى التخرج في ظل تراجع قيمة الشهادة المحصل عليها و عدم مواكبتها لما يستجد في سوق الشغب وبطالة الخرجين.
و على هذا الأساس، يمكن اعتبار الفشل الدراسي و تراجع المستوى المعرفي للمتعلمين ظاهرة بنيوية مركبة، و مستفحلة بشكل مخيف في المغرب، غير أن محاربتها و الحد منها ليس بالمهمة المستحيلة و المعقدة، و إنما يمكن تجاوزها إذا توفرت الإرادة السياسية و الحقيقية للإصلاح أولا، ثم إنجاز رافعات تعد بنتائج ملموسة وفق مقاربات تشاركية للمتدخلين في الشأن التعليمي و التفعيل الناجح لمبادرات التجديد في التعليم الابتدائي على المدى القريب، مع اعتماد برامج تشجيعية لتعبئة و تحسيس الأسر بخطورة الانقطاع عن الدراسة في سن مبكرة و تقوية دور (مدرسة الفرصة الثانية ) في إعادة إدماج المنقطعين و المفصولين أو إعدادهم للمنهاج السيوسيو مهني، ثم وضع آليات جديدة لبعث و إحياء المناهج و الكتب المدرسية و توحيدها و تقليص مواد التدريس في الطور الابتدائي و تعزيز القدرات التعليمية في اللغات العربية و اللغات الأجنبية و الرياضيات.
و من هذا كله، و استدراكا للتعثرات الحاصلة و المستقبلية، و من أجل تحقيق الأهداف المنشودة و تنفيذ هذه الخطوات العملية المقترحة، وجب على الدولة توفير المستلزمات الميسرة للتربية و التكوين المادية منها و المالية و تفعيل مراقبتها في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة و بذلك تكون خطوة مهمة نحو النجاح.
*أستاذ القانون العام بجامعة محمد الخامس