بقلم خاليد شخمان
يدرك الناخب المغربي وليد الركراكي كغيره من المدربين، أن كرة القدم تعتمد بالدرجة الأولى على مهارات اللاعبين، والاستعداد البدني والنفسي الذي يؤهلهم لخوض المباريات، وتَحَمُّل تعقيدات ظروفها الصعبة والدقيقة. وفي هذا يتحسس وليد أهمية محطة كأس العالم، كمحطة استثنائية، يَتَثَبَّتُ من خلالها الجمهور وأهل الاختصاص الرياضي، من خطط المدربين ومن حسن قراءتهم لمكامن القوة والضعف عند خصومهم. فوفق هذا التثبت والتدقيق يتم تمحيص دهاء المدربين ومقدرتهم الفنية على التعامل مع مجريات المباريات وحسن تدبير الطارئ من ظروفها: كأن يتم استبدال لاعب، أو تغيير خطة، أو تبديل أسلوب، أو اختيار توقيت بدل توقيت آخر.
تبدو هذه المعطيات مهمة وبديهية في عالم كرة القدم، وهي كذلك عند الركراكي الذي استند في إمساكه بخيوط اللعبة، على قواعد التخطيط المحكم والتدريب الصلب و التشبث بطول النفس؛ فلتحقيق أهدافه المرسومة، حاول الرجل استدراج هذه الخيوط نحو الإفصاح عن عبقرية الشعب المغربي والتدليل على إمكاناته الكروية الكامنة المتوارية خلف سنوات الإحباط والخوف وعدم الثقة .
بديهي جدا أن يُعِدَّ الركراكي العُدَّة المادية والنفسية التي تؤهله لمواجهة كبار اللعبة في هذا المحفل الرياضي العالمي، وهو أمر استفاد فيه المدرب مما راكمه من تجارب محلية وقارية، سواء بصفته كلاعب دولي أو بصفته كمدرب. غير أن وليد لم يتوقف عند النظر في الاستعداد البدني والتكتيكي و مهارات اللاعبين فقط، بل تجاوز ذلك إلى النبش في العوالم الخفية المستعصية عن الفهم والتحليل والاستنتاج؛ فهي عوالم يحسبها البعض ضربا من الهذيان لأنها تدور في الغالب على اللامحسوسات واللامرئيات.
إن عالم الركراكي الجديد، وإن كان يتأثر بمفاهيم الحظ والدفئ العائلي والتواصل الحاصل بين اللاعبين داخليا وخارجيا، فإنه جاء برؤية أخلاقية عامرة بالقيم المستوحاة من تربة وقواميس لغة بلده، ومن التقاليد الراسخة في مجتمعه، فالإبداع والتواصل الجيد لا يمكنه أن يحدث في الملعب، إلا بالتواصل الخارجي الذي يتحقق خارج الرقعة الخضراء، وبالطاقات المعنوية التي تشحن اللاعبين.
الغالب أن رؤية الرجل تُشير إلى منبته الحسن، وتخبرنا بتشبعه المطلق بقيم وتقاليد المغاربة من حب والتزام ووفاء.
وهو في هذه الرؤية متوكل/ لا متواكل على الله، ويعلم علم اليقين أن كُرة الخصوم تستشعر هذا التوكل وتستشعر التلاحم وتستشعر التفاني من أجل إرضاء الوالدين: تستشعر كل هذا لتخطئ هدفها وتضرب في العارضة (البوطو) وتخرج.
قد يقرأ البعض عبارات الركراكي على أنها قاموس مقتبس من عالم الغيب أو من عالم الحلم والخيال، فهو قاموس لا يمكنه، بحسب هذا البعض، أن يصمد أمام القوة المادية العاتية لخيرة الفرق العالمية (بلجيكا، كرواتيا، إسبانيا…)، لكن الركراكي يدرك أن العقيدة التي يؤمن بها رفقة لاعبيه وجل الشعب المغربي، من سماتها الأساسية، منح المقدرة على تجاوز المعيقات المادية مهما كانت قوتها وصلابتها.. فالنية التي يحوم حولها الركراكي مثلا، تتسق مع المعاني المعجمية التي تقيمها الدلالات اللغوية والاصطلاحية لتفيد ” القصد” ومحاولة “تجاوز الوضع الراهن”، بالأخذ بأسباب “العزم والتوكل” مع” انعقاد القلب على فعل شيء” ما.
لقد استهل الركراكي عمله بقصد ونية التوكل على الله وعقد العزم على التأليف بين قلوب اللاعبين وجعلهم “عائلة” واحدة متحابة يشيع فيها نكران الذات، ويذوب فيها الجزء في الكل، ويقضى فيها على أمراض الماديات مما يعج به عالم الرياضة، من حسد ودسائس وضغينة وكذب ونفاق.. فتم له تعويض هذه المفاهيم، فعلا وواقعا، بمفاهيم الحب والثقة والبذل والعطاء، وتم منح اللاعبين قيمتهم غير المادية، حتى صار أعضاء المنتخب المغربي كالجسد الواحد.
لم يُدخل الركراكي مفهوم الوالدين ورضاهما إلى الإعلام الرياضي وإلى رقعة ملاعب قطر، اعتباطا بلا قصد ولا نية، ولا فعل ذلك من أجل الخلط بين الدين والرياضة، ولا من أجل تغليب العواطف على الواقع؛ بل لأنه يدرك وقْع هذا التقليد على اللاعبين وعلى الجمهور المغربي والعربي (انظر ما فعله تداول صور تقبيل اللاعبين المغاربة لرؤوس أمهاتهم من تأثير على امتداد الوطن العربي والعالم بأسره).
إن هذا التقليد المغربي المستمد من أصول الدين الإسلامي الحنيف، والذي يرفع رضا الوالدين إلى المرتبة الثانية بعد رضا الله، كان له بالفعل الوقع الأكبر (خاصة مع إحضار عائلات اللاعبين وأمهاتهم إلى الملاعب) في زيادة منسوب البدل والعطاء، ومنسوب الألفة والتلاحم، ومنسوب الدفئ والحرارة، ومنسوب التفاني ونكران الذات.. فبهذا ارتبكت كرة الخصوم فأخطأت مرماها سواء تم لها هذا الارتباك بأقدام بلجيكية أم بأقدام كرواتية أم بأقدام إسبانية..
لقد تشكلت مدرسة الركراكي الأخلاقية على مداميك إحياء القيم والتقاليد المتوارثة بين المغاربة، والعمل على تغيير عقلية الجمهور والمتتبعين بتذكيرهم بقواهم المعنوية الراسخة في وجدانهم وسلوكهم؛ فكأن لسان حاله يقول للعالم كافة أن النية والتوكل على الله ليستا حلما وتواكلا، بل هما استعداد مادي وتلاحم معنوي وارتباط بالله وبالوالدين وبحب الأوطان، من شأنه أن يخلق المعجزات.