بقلم: *أمين سامي*
تحولات وتغييرات عميقة وجذرية يعرفها العالم اليوم وغدا، فمشارف الدورة التاريخية الجديدة في الأفق وبوادرها بدأت تتضح في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأسرية والمهنية وغيرها،…
فالقطاعات الحالية أصبحت تعيش أزمة عميقة وحقيقية أزمة تتجلى في ثلاث عناصر : موظف القطاع، ثقافة القطاع و أخيرا تنظيم القطاع. لقد أبانت جائحة كورونا فيروس عن محدودية التعليم النظامي وغياب التفكير الناقد و التفكير التوقعي الذي يساهم في تطوير المنظومة بمختلف مكوناتها في الرقي بالبلد. وهذا يتضح جليا من خلال ملاحظة ومقارنة بسيطة بين دول شرق آسيا كيف دبرت الأزمة مقارنة بباقي دول العالم.
إن الملاحظ لجائحة كورونا فيروس وما خلفته على الاقتصادات العالمية وسلوكيات الأفراد و المجتمعات اليوم تدفعنا للمقارنة بين نموذج الذكاء الاستراتيجي الشرقي بقيادة الصين ودول شرق آسيا، ونموذج الذكاء الاستراتيجي الغربي بقيادة أمريكا والدول الأوروبية.
فالمتتبع للوقائع وخفايا التدبير والراصد للعلامات الضعيفة والمتقدمة والمراقب لحركية النسق المجتمعي بمختلف أبعاده يدرك أننا أمام نموذجين من الذكاء الاستراتيجي وأن المرحلة المقبلة تتطلب نموذج ثالث من الذكاء الاستراتيجي الذي يجمع بين الذكاء الغربي والذكاء الشرقي، فالصين ودول شرق آسيا تولي أهمية بالغة للجماعة ووحدتها وتعتبر أن الاستراتيجية هي وحدة التصور و الرؤية والفعل، في حين تولي أمريكا والدول الأوروبية أهمية قصوى للفعل الاستراتيجي وغايات الفعل وبالتالي نحن أمام مدرستين مختلفتين تماما فالأولى أنتجت لنا مجتمع استراتيجي لأن في نظرها الاستراتيجية فعل جماعي ولا يمكن تحقيقها بشكل فردي حتى وان كانت فردية فانها تحتاج إلى الجماعة من أجل تحقيقها وبلورتها على أرض الواقع، في المقابل تركز المدرسة الامريكو-أوروبية على الفعل الاستراتيجي وأهمية الفعل في تحقيق الاستراتيجية وانه بدون أفعال واضحة وذكية وصريحة وقابلة للقياس لا يمكن تحقيق الاستراتيجية، وبالتالي أنتجت لنا مجتمع سياسي.
ان الاستراتيجية في عصر اقتصاد المعرفة أصبحت تتطلب الجمع بين الذكاء الاستراتيجي الغربي والذكاء الاستراتيجي الشرقي من أجل خلق مدرسة ثالثة للذكاء جامعة بينهما. ولا يمكن النجاح اليوم في مواجهة التحديات المستقبلية بدون تطوير منظومتنا التعليمية والاستثمار فيها وتشجيع البحث العلمي وخلق الاتساق بين السياسات الاقتصادية و الاستراتيجيات التعليمية وتعزيز الترابط بين العلوم والصناعة والخدمات.
فالتعليم يلعب دورا محوري ومصيري في تقدم المجتمعات والدول وتحسين جودة الخدمات سواء كانت حكومية أو خاصة أو خيرية فتحسين جودة المنظومة التعليمية يساهم بدون شك في خلق أجيال جديدة متعلمة ومواكبة للعصر الذي نحن بصدد الولوج إليه. واللإشارة فقط فحسب التقرير العربي للتنمية المستدامة لسنة 2020 الصادر عن الاسكوا فإن من أهم العوائق التي تساهم بشكل مباشر في ضعف التعليم بالمنطقة العربية خصوصا والنامية بشكل عام :
١. ضعف نوعية التعليم المقدم رغم الجهود المبذولة من أجل تحسينه وتجويده.
٢. ضعف الاقتصادات المحلية يحد من عائد التعليم.
٣. عدم المساواة والانصاف في التعليم يكرس الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وبالرجوع لمؤشر المعرفة العالمي لسنة 2022 ومؤشر الابتكار العالمي لنفس السنة، يتبين أن أغلب الدول العربية تحتل مراتب متأخرة بإستثناء الإمارات و قطر اللتين استثمرتا في المجال التعليمي وقامتا بتطوير الكادر البشري واعتماد التقنيات التكنولوجية الحديثة في أغلب الوظائف والقطاعات الحكومية و الخاصة و الخيرية.
كما يتضح ان الفجوة بين البحوث الأكاديمية التنموية والاحتياجات الاقتصادية تتسع بشكل كبير اذا لم يتم تداركها بنفس السرعة التي يسير بها النموذج الاقتصادي الجديد، فعلى سبيل المثال فعدد الباحثين على مستوى المنطقة العربية يصل إلى 722 باحثا بالنسبة لكل مليون نسمة بالمقارنة مع المتوسط العالمي الذي يمثل حوالي 1267 باحثا لكل مليون نسمة، أما على مستوى أوروبا فعدد الباحثين لكل مليون نسمة يتجاوز 3000 باحث لكل مليون نسمة، فضعف عدد الباحثين في المنطقة العربية في مختلف المجالات يساهم في صعوبة تجاوز ومواجهة التحديات الجديدة واستشراف الفرص المستقبلية، خاصة أن التعليم يلعب دورا محوري ومصيري في تقدم المجتمعات، كما أن ضعف الميزانيات المخصصة للبحث العلمي والتطوير والتي لا تتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة العربية برمتها في المقابل فالمتوسط العالمي في هذا القطاع يبلغ 1,73% من الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي يتضح أننا في المنطقة العربية أدنى بكثير من المتوسط العالمي حسب التقرير العربي للتنمية المستدامة لسنة 2020.
إن ضعف نوعية التعليم يساهم بشكل كبير في ضعف إنتاج إنسان القطاع المعين(إنسان الإقتصاد، إنسان الجودة، إنسان الاستراتيجية، إنسان الابتكار،…) وبالتالي غياب البروفايل اللازم لتحقيق التنمية بمختلف تلاوينها. كما أن التمييز في النظام التعليمي يخلق اللامساواة واللاتكافؤ بين الأفراد، فتعليم النخبة يتيح التفكير الاستراتيجي ورصد العلامات الضعيفة والمتقدمة وبذور التغيير ويطور مهارة الاستشراف الاستراتيجي التي تكون قادرة على ملاحظة حركية النسق المجتمعي بمختلف أبعاده كما سبق ذكره، في حين أن تعليم العامة يخلق فئة التفكير الاختزالي التقني التي تنظر إلى عناصر النسق بشكل تجزيئي وتقني محض مع إغفال ترابطها وملاحظة تفاعلاتها فالفكر الاختزالي هو فكر أعور ينظر للأمور بنظرة التخصص الضيق ويعتبر أن كل المشاكل عبارة عن مسامير وأن حل استعمال المطرقة هو الحل الأنسب في حين أن التفكير النظمي يرى بنظرة المتخصص الموسوعوي الذي يوظف العلوم الأخرى ويتفاعل معها في حل العديد من الإشكالات الحالية والمستقبلية.
وهذا وحده غير كافي لتحقيق الشروط الكفيلة لضمان النجاح مع أن النجاح نتيجة نريد الوصول إليها وهناك متغيرات داخلية نتحكم فيها و متغيرات خارجية خارجة عن السيطرة هي التي تتحكم فينا وتفرض سيطرتها على الواقع، وبالتالي اليوم يجب فتح سؤال جوهري حقيقي أيهما أفضل التدبير المتمركز على النتيجة GAR(gestion axée sur le résultat)أم التدبير المتمركز على الجهد
. GAE(gestion axée sur l’effort)
فرغم توفير الرجل المناسب وإصلاح المنظومة التعليمية بمختلف أسلاكها ولكن مع غياب ثقافة القطاع لا يمكن تحقيق التنمية، فالثقافة التنظيمية مسألة حيوية ومصيرية لاستدامة القطاع، فهذه الأخيرة هي التي تحقق الولاء الوظيفي للعاملين في القطاع، فوجود الرؤية والرسالة والقيم هي العناصر الأساسية الموجهة للثقافة التنظيمية للقطاع. وهي المحرك الأساسي لضمان بقاء المؤسسة واستدامتها، ولكن للأسف ما نعيشه اليوم من أزمات كثيرة وخاصة الاقتصادية و ارتفاع البطالة وارتفاع معدلات دوران العمال والمستخدمين في المؤسسات كيفما كان شكلها وحجمها وانعدام الولاء الوظيفي مرده إلى غياب الثقافة التنظيمية للقطاع التي أصبحت اليوم مجرد حبر على ورق وليست مفعلة بالطريقة الصحيحة أو كما يجب أن تكون. والامثلة عديدة خاصة إذا قمنا بالملاحظة والمقارنة للشركات المتعددة الجنسيات أمثال : كوكاكولا، أمازون، ستاربكس، فيسبوك، جوجل،… كيف أن هذه الأخيرة تعتبر أن الثقافة التنظيمية عصب المؤسسة ودعامة أساسية من دعامات النجاح من خلال رؤية عالمية طموحة، ورسالة قوية محفزة، وقيم سلوكية مجسدة على أرض الواقع تحقق الولاء الوظيفي للعاملين.
فعلى سبيل المثال: قال ساتيا ناديلا؛ الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، خلال اجتماع المساهمين السنوي في عام 2015: “قدرتنا على تغيير ثقافتنا هي المؤشر الرئيس لنجاحنا في المستقبل”، فعناصر النجاح في المستقبل كما جاء على لسان الرئيس التنفيذي لمايكوروسوفت هي : التجديد، الاستماع، الشرح، التأثير، القياس، فالثقافة التنظيمية للقطاع هي القوة الناعمة الجديدة التي تضمن النجاح في المستقبل.
وبالتالي فالنهج المتَّبَع في كيفية معاملة الموظفين ومستوى المسؤولية والثقة الممنوحين لهم يعتبر جزءاً أساسياً من الثقافة التنظيمية لنجاح القطاع. ضف على ذلك أهم عنصر رئيسي لاكتمال الشروط العميقة والأساسية لنجاح القطاع وهي تنظيم القطاع، فتنظيم القطاع مسألة أساسية ومهمة لتحسين وتطوير جودة الخدمات المقدمة كيفما كان نوعها وجنسها، فمسلسل عمليات التدبير يرتكز على أربع عمليات أساسية وهي : التخطيط، التنظيم، التوجيه، وأخيرا المراقبة.
فعملية التخطيط تقتضي إعداد خطة تطوير القطاع بدءا من الخطة الاستراتيجية ثم الخطة التنفيذية ثم أخيرا الخطة التشغيلية. أو كما يصطلح عليها خطط طويلة الامد ثم متوسطة الأمد وأخيرا قصيرة الأمد فغياب الخطة بمستوياتها الثلاث أو جزء منها يساهم بشكل أو بآخر في فشل القطاع في تحقيق نتائجه، كما أن الخطة الاستراتيجية تعتمد بشكل كبير على استشراف المستقبل وتتوقعه وتصنعه وبالتالي يجب جيدا تحديد شكل المستقبل الذي نريد الولوج إليه و صناعته.
فالإستراتيجية قرار فقررات اليوم هي التي تحدد مستقبل الغذ، وفي ظل غياب عنصر الاستشراف تبقى القرارات مجرد عربة وظيفية مثل باقي العربات تقوم بتدبير اليومي الاطفائي لا غير. وبالتالي يجب أن تكون اليوم قراراتنا إستراتيجية لا إطفائية لمواجهة التقلبات والأزمات العالمية الجديدة.
إن تنظيم القطاع من خلال تقوية البنية التحتية التنظيمية مسألة حيوية ومصيرية لاستدامة القطاع من خلال الدلائل الادارية والمالية والمساطر والإجراءات والعمليات و…كل هذه الأمور يجب اليوم استحضارها وتقويتها والعمل على تسريع التحول الرقمي والانخراط فيه لانه أكثر فعالية في تحسين مستوى أداء القطاع، فالرقمنة اليوم هي حصان طروادة اذا استطعت ترويضه وفق خصوصيات القطاع وضبط وتنزيله بالشكل المطلوب في زمن تحدي السرعة والتسارع فقد ركبت المستقبل الجديد وأصبحت من بين صانعي الألعاب مستقبلا في مختلف المجالات.
إن نجاح تنظيم القطاع يتطلب التجديد والتطوير كل 5 سنوات كحد أقصى أن لم نقل أنه أصبح اليوم كل 3 سنوات وبالتالي فغياب هذه العناصر الثلاث وضعفها اليوم يساهم فعليا في عدم تحقيق الشروط العميقة والأساسية لنجاح القطاع.
*خبير الاستراتيجية وقيادة التغيير