*المصطفى كليتي*
بعد استواء الدخول المدرسي والإجتماعي والسياسي، يتعسر تحديد الدخول الثقافي ، الذي يبقى معلقا بمنطق الصدفة حينا والمناسباتية والإرتجالية أحيانا أخرى.
لم نقعــــــد تقاليد مرسومة معلومة تعلن انطلاق موسم ثقافي بمواصفات معينة ، ويبقى الأمر مشرعا على كل عارض ومحتمل ، لا برمجة ولادليل يوضح المرتقب من الأنشطة الفنية والمعارض التشكيلية والسينمائية والمسرحية والندوات الفكرية والأدبية وقد يعلن عنها طفرة واحدة أو تتوارى بالجملة ، ما أحوجنا لخطط برامج ثقافية سواء على المستوى القريب والمتوسط والبعيد ، ولاسيما والأنشطة الثقافية والفنية ، ليست مجرد ترف ، وإنما هي أحد أضلاع المثلث الذي تنهض عليه كل تنمية إقتصادية واجتماعية وثقافية .
يهيمن الدخول المدرسي على المشهد العام، وكل الجهود والإهتمامات تنصب على قضايا وشجون التعليم والتكوين ، وجميع المطابع ودور النشر والمكتبات ـ أو تكاد ـ لاهم لها إلا تغطية حاجيات المدرسة من كتب ومطبوعات ومنشورات ويبقى الكتاب الثقافي أو الأدبي مهمشا إلا حين .
ويظل السؤال المركزي عن مدى أهمية الصناعات الثقافية والإبداعية ببلادنا ، والتي يمكن أن تلعب أكثر من دور في مسار النموذج التنموي المنشود بدل الحضور الهزيل والمحتشم لكل ماهو ثقافي ،بيد أنه يتشابك مع السياقات العامة للتنمية بل هو رافعة أساسية لها .
العالم ـ يومئذ ـ يمر بمرحلة جديدة وبمخططات قطاعية كبرى تسعى لبناء أوراش في ميادين متعددة ومختلفة تتضافر لتشكيل مشروعات تنموية متسعة الأفق ، وبات من الضروري وضع منهجية عمل واضحة المعالم ترنو إلى الإطلاع بأدوار طلائعية من أجل إنضاج مشروع تنموي شامل ومتكامل .
يحول تحقيق تنمية إقتصادية وإجتماعية ، مالم يسد وعي القناعة بدورالحضور الثقافي ، لكونه مصدر عطاء إبداعي في مجالات متعددة ، وما يتيحه من إمكانيات شغل وتفتح عل آفاق بعيدة ، ليس الآن فحسب بل على امتداد الزمن والأجيال المتلاحقة .
فقد صدرعن الجمعية العامة للامم المتحدة اليونسكو قرار مؤرخ ب 20 دجنبر 2013 يؤكد بما يمكن تسميته ب ” التنمية المبدعة ” ، فالثقافة بأبعادها المختلفة ومناحيها الإقتصادية والإجتماعية وأوضاعها البيئية ،أمست تتصدر الغايات التنموية المسطرة ، وجاء إعلان ” فلورانسا ” سنة 2014 في نفس السياق ، ودعت اليونسكو لعدة لقاءات ومؤتمرات تمحورت حول أهمية ” الصناعات الثقافية” تحت شعار مشع ” الثقافة مفتاح التنمية المستدامة ” ، وسعت الجهود لجعل الثقافة في صميم استراتيجيات التحول والتطور.
الثقافة الواحدة لا تستطيع أن تصمد وتضمن الإستمرار ، وبات من الضروري الإنفتاح على الثقافات الآخرى بغاية التفاعل والتكامل ، فكل ثقافة تتغذى من الآخرى وتغتني بها ، ومن أهم الأهداف التي تصبو إليها ” الصناعات الثقافية ” الدعوة إلى إقامة ” العرض الثقافي ” الذي يجعل من الثقافة قطاعا ترويجيا إقتصاديا وتجاريا كمنتوج تتداخل فيه اعتبارات شتى سياسية وثقافية وتراثية وكأبرزمثال يساق في هذا المقام السياحة الثقافية ونشير على الخصوص بالتجربة الإسبانية مع التراث الأندلسي واستثماره سياحيا حيث انعشت السياحة الإقتصاد الإسباني ودفعت به قدما.
إعداد المنصات الثقافية التسويقية للتراث المادي والغير المادي بواسطة الإشتغال على المواقع الأثرية وإحداث متاحف ترصد تجليات الحضارة المغربية ، ومن جانب مقابل ترويج الإبداعات الفنية المعاصرة ، وذلك بتجاور التليد والجديد ، فإن الإستثمارالثقافي بأبعاده المختلفة يكون مشروعا تأسيسيا ومدخلا رئيسيا لرهان تنموي متجذر وفعال .
الثقافة المغربية بحمولاتها الخاصة وهوياتها المتقاطعة وروافدها المتنوعة ، رهان خصب على كسب التحديات وترجمة الإبتكارات والإبداعات إلى منتوج قابل للترويج والتسويق والإستثمار داخليا وخارجيا ، مرحلة طموحة تقتضي انخراط الجميع في تحقيق ـ على أرض الواقع بماهو محسوس وملموس ـ من نتائج عملية تدخل في صلب مجريات العمليات التنموية المرجوة .
بات من الضروري مواكبة التطورات الرقمية ومابين الفنون والعروض والفنون من تعالق ، مع إغناء وتطوير المحتوى المتنافذ مع الموسوعات الرقمية التشاركية عبر التعاون والتفاعل المستمر في بعده الرقمي الحامل للمضامين الثقافية في هذه الفضاءات المفتوحة التي أضحت وسائط معرفية ذكية تلملم أطراف العالم .
لم يعد الإنتاج الثقافي مجرد عمل مغرق في العزلة الفردية بل هو أبعد وأقوى من ذلك فهو يختزل هوية شعب ، كما يساهم في النهضة الفكرية والإبداعية ، كأحد إفرازات النمو الإقتصادي والإجتماعي ، فقد أضحى في عالم تتصارع فيه الهويات بقصد ترسيخ الذات رهانا أساسيا لتحقيق الأثر والوجود في عالم متحرك نحو الأمام.
المنتوجات الثقافية تترابط مع الصناعات الثقافية ـ حسبما تصنيف اليونسكو ـ بكل ما تختزله من كنوز تراثية وقيم مرعية وجذب سياحي وهوية ذات بصمة مائزة.
كل هذا لا ينفصل على الإبداع الثقافي وهو في عمقه رؤى واعية تقتحم العالم بإصرار وقوة فعل وحضــــور ..