“العبدي” ينبش جراح الذاكرة الإيطالية عبر رواية “حريق الدم”

المساء24 ـ رضا سكحال

بأسلوب مشوق، وبلغة جذابة، يطل علينا الروائي عبد العزيز العبدي، محرر صرخة ووجع فاطمة، برواية جديدة موسومة “بحريق الدم”، عنوان يجمع بين الحزن المقموع والسخرية المريرة، وغلاف يفتح أبواب التأويل، أنيق في غموضه، غامض في جاذبيته. بمجرد أن تبدأ في قضم حروف الرواية، حتى تجدك نفسك على مشارف النهاية، تخترق الأحداث، تنتقل من سارد لآخر، كأنك في ماراطون كبير، جائزته أن تسدل الستار ، وتغادر قاعة “حريق الدم”، نعم يحدث أن يكون للرواية قاعة، يبنيها الكاتب بإسمنت الحروف.

النهاية التي جاءت بطريقة مأساوية، روتها تلك الإيطالية الشقراء، بعدما منحها الكاتب حق الانتقام، ربما لأنوثتها التي أسقطتها سلوى يوم سرقت منها حبيبها جوزي، الطبيب الذي عالج آلام الناس، لكنه عجز أن يداوي جراحه وجرحه بذلك المنزل البارد المتاخم لمحطة قطار مدينة كاسينو.

عفوا، لم يكن الكاتب من منح لفرانشيسكا ماريني روسي ذلك الحق وحده، بل حتى الساردون المتعددون، أعطوا لها ذات الحق، أقصد حسن، تيريزا، والشيوعي إيميليو، وجوزي، حتى سلوى الزوجة مع وقف التنفيذ…
فهل كانت سلوى تتطهر بحروفها، وهي تعلم أنها ستصل قطعا إلى جوزي؟
هل اعتقدت أنه سيسامحها على ما اقترفته في حقه؟

تستمد الرواية شرعية أحداثها من التاريخ، تاريخ الحرب العالمية الثانية، في سياق هجوم الحلفاء على إيطاليا، فلعلع الرصاص والصراخ في معركة كان الهدف منها السيطرة على روما وإخضاعها.

تعد تيمات هذه الرواية المشوقة عديدة(الخيانة، الخذلان، مآسي الحروب…لكن يبقى أبرزها:
– تيمة الشهامة:
مثلها “إيميليو”، أو الرفيق إيميليو، عاشق غرامشي، كان رمزا حقيقيا للفكر الشيوعي، ليس لكونه كان يردد تلك الأغنية العابرة، ولا لكونه تزوج تيريزا، بل لأنه، كان شهما، والشهامة ارتبطت دائما بالمبدأ.
– تيمة النسيان:
هي نعمة، يحدث أن يفقد الإنسان ذاكرته لكون الجهاز العصبي ذكي، يرحم بذلك صاحبه من الألم، ومن تذكر ذلك الوجع الملازم له، لهذا حين فقدت تيريزا الذاكرة، عاشت بسلام، وبمجرد ما ظهر شريط تلك الفترة، حتى انهارت، وحلقت بوجعها بعيدا عن كل شخوص حريق الدم.
– تيمة الظلم:
هذه التيمة التي كانت حاضرة منذ البداية، ظلمت ـبضم الضاء- سلوى وخدلت ـبضم الخاء- فظلمت ـ بفتح الضاء- وخلدت هي الأخرى جوزي.
تعرضت تيريزا للظلم، حين جهلت هوية ابن طفلها، بل وحين لم تتذكر خروج ذلك الطفل من رحمها إلى عالم قذر، لولا إيميليو، لسحقه النظام الرأسمالي.
حتى إيميليو نفسه ظلم، حين لم ير ذلك المجتمع الخالي من الطبقات، ولم يستمتع برؤية إيطاليا الشيوعية، وهي تنتصر للطبقة العاملة ولفكر غرامشي.
ظلم إيميليو بعدما غادرت تيريزا إيطاليا نحو عالم آخر، فغاب هو الآخر، تارك لفرانشيسكا حق الحديث بلسانه، ربما لأنها تشاركه نفس حبه لجوزي.
وظلم المغاربة الذين افترستهم تيريزا واحدا واحدا، واصفة إياهم بالوحوش، أغفلت تيريزا أن العرق الأوروبي، ليس بتلك الطهارة التي تعتقدها، ربما لم يستطع إيميليو أن يعلمها أن التعميم جهل، وأن السير في دربه حمق. فحارق روما ليس مغربي، ومغرق إيطاليا بالفاشية لم يكن من فصيلة دم “الماروكيندا”.

فهل كانت عناصر “الݣوم” وحدها من تركت ندوبا بذاكرة إيطاليا؟
– تيمة الغياب:
غاب صوت الحاج، الذي كان فردا من أفراد الݣوم، تمنيت أن يكون حاضرا بصوته، لا لكي يدافع عن نفسه، بل ليحكي لنا ما وقع، ليقر بذلك الذنب، ويقول لنا أن الحرب لا أخلاق لها، وأن جيش الحلفاء ضم جنسيات متعددة من كل البقاع، مختلين، همج، جنود بلا ضمير ولا أخلاق…فعلوا ما فعله الكثير من جنود أوروبا سابقا في آسيا وإفريقيا، وفي أمريكا….
فتدخل إيميليو، لينهي مشهدا لا يمكن وصفه، يبقى قابلا للتأويل…ويبرئ المغاربة من عار سببه بعض الجنود، أو جلهم، ووجه سهامه إلى النظام الرأسمالي قبل مغادرة كاسينو:
“المسؤول الحقيقي هي هذه الرأسمالية المتوحشة “.

لقد استحقت “فرانشيسكا” أن تظفر بجوزي في النهاية، لكن جوزي لم يعد ذلك الرجل الذي عرفته وتسكعت معه في دروب الحياة، بل أصبح واحد جديدا، يحمل بعضا من جينات وراثية يعود أصلها إلى بلد آخر وثقافة أخرى، والكثير من النذوب…