منعم أولاد ع. الكريم
رغم أنني كنت أغط في سبات عميق، اسيقظت في جوف الليل على العواء الصاخب والمسترسل لمجموعة كبيرة من الكلاب المتشردة قضت مضاجع الأهالي. صرت أترقب هدوءها وعودة السكينة لأستأنف نومي، خصوصا وأنه كان ينتظرني موعد هام بمدينة الرباط في الصباح، إلا أن ذلك لم يكن ليتحقق بسبب حالة التهيج الذي كانت عليه عصابة الكلاب الضالة. كان واضحا من خلال نباحها أن عددها كبير يفوق العشرة. بدأت أجول ببصري وسط ظلام الغرفة محاولا رسم سيناريوهات خيالية لعلها تساعد في إخراجي من قلب تلك المعركة الطاحنة التي تدور رحاها بالخارج بين الكلاب. كانت أصواتها قبيحة ومزعجة جدا. وما أن تهدء الأوضاع قليلا، لأعتقد أن القتال قد انتهى، وأنها فرصتي لاستئناف أحلامي، حتى يعاود كبيرهم النباح من جديد بشكل مقزز لينخرط الجميع أيضا في زوبعة لامتناهية من الضجيج. وفجأة، ولا أدري كيف، خطرت ببالي إحدى روائع أدب أمريكا اللاتينية، التي كان أستاذي بالجامعة محمد بويسف الركاب يلح علي بشدة لقراءتها، “المدينة والكلاب” La ciudad y los perros للكاتب العالمي ذو الأصول البيروفية، الحائز على جائزة نوبل للأدب سنة 2010، “ماريو فارغاس يوسا”، الصادرة سنة 1963، وهي بالمناسبة أول رواية يكتبها “فارغاس يوسا”.
رغم البون الشاسع بين السياقين، ورغم شساعة المساحة الزمنية الفاصلة بين فترة قراءة تلك الرواية المذهلة واللحظة، أبت الذاكرة إلا أن تجرني جرا لاسترجاع بعض أحداث ذاك النص القصصي الشيق الذي أبدع “ضون ماريو” في نسج خيوطه. عنوان الرواية في الحقيقة يحمل دلالات مجازية، لأن كلاب الرواية آدمية، بينما كلابي أنا حقيقية شرسة، جائعة وغير قابلة للترويض. كلاب “فارغاس يوسا” لم تكن سوى مجموعة من طلبة إحدى المعاهد العسكرية الثانوية بمدينة ليما، حيث يخضعون لتكوين أكاديمي وفق نظام عسكري شديد الصرامة والقسوة. الرواية تروي حكايات تحدث داخل ذلك المعهد العسكري الداخلي أبطالها هؤلاء الطلبة المساكين الذين يعيشون حياة خضوع واستعباد وإذلال تحد من تطور شخصياتهم. تتشابك القصص المتعددة لهؤلاء اليافعين بين صراعات داخلية يعيشونها يوميا فيما بينهم وأخرى بضباط الجيش المشرفين على إدارة المعهد لتمنحنا في الأخير وحدة سردية ممتعة ومبهرة.
عنوان هذه الرواية الرائعة، التي أدعو بالمناسبة الجميع لقراءتها، يمكن أن يطبق على المدينة التي أعيش بها، القنيطرة، رغم اختلاف كبير في التفاصيل. حينما جئت للإستقرار بالقنيطرة صيف 2006, كانت مدينة هادئة، بنمط عيش مريح، بسبب انخفاض تكلفة المعيشة هنا مقارنة بمدينتي الأصلية, تطوان، وضعف حركة المرور وانتشار المساحات الخضراء والغابات بكل أطراف المدينة… إلا أنه ومع مرور الزمن، بدأت هذه المدينة الوديعة بالتغول، حينما اكتشفها لوبي العقار الذي لا يبقي ولا يذر، فوجد بها تلك الجنة الموعودة أو الدجاحة التي تبيض ذهبا، وبعد ان تحولت القنيطرة من مدينة تعتمد في نشاطها الأساسي على الفلاحة والصيد البحري إلى قطب صناعي وطني يحتضن منطقة صناعية ضخمة بضواحيها (ولاد بورحمة) وبعض الشركات المختصة في صناعة الأسلاك الكهربائية الخاصة بالعربات الثقيلة (الكابلاج)، والتي استقطبت الآلاف من العاملات والعمال من مختلف مناطق المغرب، مع ما صار يعنيه مصطلح “الكابلاج” من عبودية مقنعة ومقننة ونمط عيش قاسي. كل هذا كان بإمكانه أن يشكل إضافة حقيقية طفرة نوعية بالنسبة لاقتصاد القنيطرة خاصة ومنطقة الغرب عموما لو أنه كان مرفوقا باستثمارات في البنى التحتية الحضرية والتهييء العمراني. إلا أن شيء من ذلك لم يحدث، لدرجة بدت معها المجالس المتعاقبة على تدبير جماعة القنيطرة عاجزة عن مسايرة التحولات الصناعية والإجتماعية والبشرية التي عرفتها خلال العقد الأخير. وهكذا أصبحت القنيطرة مدينة تسودها الفوضى والضوضاء والغلاء وكل مظاهر العبث والقلق… مدينة تجتاحها جحافل من المختلين عقليا في مشاهد تثير الشفقة والخوف؛ مدينة الحفر وضعف الإنارة ورداءة التجهيزات الحضرية وغياب المتنفسات وأماكن الراحة؛ ومدينة تجوب في شوارعها إلى جوار قطعان البقر التي تتخذ من المساحات الخضراء الضئيلة مرعى لها، ومجموعات الكلاب المتشردة التي تتحرك بالعشرات من أجل فرض هيمنتها وإثبات وجودها، أمام تقاعس وتخاذل من الجهات المسؤولة، حتى صار ليل القنيطرة كنهارها ونهارها كليلها، ظلام في ظلام، وفوضى في فوضى، فحق لنا أن نسقط عليها عنوان “المدينة والكلاب” ، مع الإختلاف في القراءات والتأويلات. وهنا تحضرني عبارة جميلة للأديب العربي عبد الرحمن منيف تجسد ما يقع في القنيطرة: “إذا كان لكل قرية و لكل مكان ذاكرة و قلب، فإن المدن الكبيرة، خاصة التي تتكون و تتغير بسرعة، تفقد ذاكرتها و تتعلمّ القسوة بإتقان”.
احسنت قولا واجزت حالة هذه المدينة البائسة التي صار فيها كل شي سقيما ومعتلا جوها وبحرها وحتى الوادي لم يسلم من هذا البؤس …..ومهما قلنا فلا يغير الحبر الواقع.