أتذكر إلتفاتة في منتهى اللطف واللباقة ، وقعت لي ذات لقاء بزنقة سوسة ، مقر اتحاد كتاب المغرب القديم ، حين هرعت من القنيطرة إلى الرباط ـ أستعجل الزمن استعجالا بغاية متابعة ندوة تقام هناك ، وبما أن المكان مجرد غرفة شديدة الضيق ، اكتظت بكراسي الحضور ، إذ برجل مهيب الطلعة ، يقف من مجلسه ويمنحني مقعده ،أكبرت سلوك الرجل الشهم ، لأعلم فيما بعد بأن صاحب المبادرة هو الأستاذ أحمد اليبوري رئيس اتحاد كتاب المغرب يومئذ .
أحببت الرجل وأكبرت تواضعه الجم ، كم من صدفة تسوقك لمعرفة أحد الكتاب والفنانيين المكرسين ، ويستفزك ببعض الفلتات المزعجة التي لا تتناسب مع مقامه أو تمثلاتك حول شخصه ، أما أديبنا الجليل أحمد اليبوري ، فأنيق السمت والكلمة وأديب أصيل حتى في مسلكياته اليومية كبرت أم صغرت ، لم أعد أتذكر فحوى الندوة وكل ما أتذكره هو جميل صنيع الرجل مع جليل مقامه ورفعة مكانته الإعتبارية .
أحمد اليبوري مسار حافل بالعطاء العلمي وهو المتعدد كأستاذ مقتدر ورائد ومعلم آجيال من الباحثين ، فضلا عن مزاولته للصحافة بجريتي ” العلم ” و” المحرر” والحياة الدبلوماسية في فترة ما ، وقبل هذا وذاك رائد من رواد البحث العلمي الرصين ، مرسخا في صفوف من كان لهم الحظ في التتلمذ عليه من الطلبة سبل المعرفة الحقة والأخلاق الرفيعة دون تمجيد ذات أو سلطة أستاذية ، كان مربيا حكيما كالشمس كما يقول أحمد أمين تارة تقسو وتارة تلين ، رقة جانبه وحسن تعامله أكسبته محبة الجميع ” فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ” آل عمران / 159 .
وفي نفس الآن أستاذ حازم تحفه المهابة والوقار ، وكانت قاعة درسه منهلا عذبا يسعى إليه الجميع لهفة وشغفا ، أو أليس المنهل العذب كثير الزحام ، يسود الصمت والأذان كلها إصغاء وانتباه لفيوض العلم والمعرفة ، بيد أنه خارج الدرس كيس منشرح الصدر جيد الإستماع والتعاطف مع قضايا وشجون طلبته مناصرا ـ على الدوام ـ نضالاتهم وشواغلهم. تحمل المسؤولية في جامعة محمد الخامس بالرباط وجامعة ظهر المهراز بفاس ، وكان منحازا لمطالب الطلبة زمن فورة المنظمة الطلابية العتيدة ، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، وكانت قوات الأمن ـ آنذاك ـ تترصد الطلبة وتهتك حرمة الجامعة ، فكان يقف في المرصاد مدافعا عن حرمة الجامعة المغربي عن كل انتهاك يطالها بكل شجاعة وإقدام ، مهددا باستقالته إن لزم الأمر .
لا يتجادل ـ اثنان ـ في مكانة أحمد اليبوري العلمية الرفيعة ، تتمثل في جهوده الحثيثة للإرتقاء بالدرس الجامعي المغربي إلى جانب ثلة من الأساتذة الأوائل الذين نحو نحوه مثل محمد برادة وإبراهيم السولامي وأمجد الطرابلسي وحسن لمنيعي وآخرون من الرواد الأفذاذ.
ازدهرت اجتهاداته في تطوير الدرس النقدي بالإضافة إلى صفته كمثقف عضوي ملتزم بقضايا وطنه وناقد وباحث حصيف في تخصصه المتميز لنقد متطورحديث، عمل على بلورته وتأصيله في الجامعة المغربية .
يعد كتاب ” دينامية النص الروائي ” مساهمة كبرى وإسهاما أساسيا في النقد الروائي بالمغرب ، يؤسس لآفاق معرفية ونقدية وثابة ، تسعى لتقصي النص الروائي من مداخل وزوايا مختلفة ومتعددة ، منجز أحمد اليبوري المتميز ، يعتبر ماسة في جيد النقد الروائي المغربي الحديث ، موظفا من خلاله عدة مفاهمية ونظرية غائصة في وهج النصوص ، بلغة سلسلة ناعمة مصفاة من قرار المعرفة لكي يضفي عليه الحس الأدبي ماءه ورواه ، فالقيمة العلمية والمنهجية والتحليلية للكتاب لا تبارى أو تضاهى ، يسلط الضوء ـ من خلال متن الكتاب ـ على عمق التجربة المغربية ويركز على أن مدونة الروائية المغربية لا تقل قيمة عن باقي التجارب الروائية العربية سواء في حقل القصة والرواية ، لقد كان أحمد اليبوري ـ بحق ـ من الذين رسخوا وعبدوا الطريق لنقد سردي مغربي يروم ويتطلع للحداثة ، كتاب ” دينامية النص ” قيمة منهجية ومعرفة ، منسجم ومتماسك بخلفية نظرية بعيدة الغور منحازة لمضمرات معرفية وجمالية تنآي عن كل ابتسار وانطباعية عجلى في إصدار الأحكام القاطعة أو استعجال نتائج .
ومن جانب آخر ساهم أحمد اليبوري مع صفوة من رصفائه ، فما يمكن وصفه بثورة ثقافية على صعيد البرمجة والمناهج وعلمية طرح السؤال الأكاديمي وكلها تصورات وتطورات موسومة بالحداثة ومواكبة التحولات التي تفرضها روح العصر وأشراطه .
كان لأستاذنا المجتهد قصب السبق في العناية النقدية بالقصة القصيرة وكان كتابه النقدي ” تطور القصة القصيرة بالمغرب ” ، أول بحث جامعي عن هذا الجنس الأدبي المخاتل، والعسير المأخذ ولا يمكن أن يتغافل عنه راصد أو باحث يروم تقصي تطور القصة المغربية مبنى وفحوى .
في كتابه ” الذاكرة المستعادة ” نجد محكي الذات وهو ينهض على المذكرات والحوارات ورصد أنشطة اتحاد كتاب المغرب داخليا وخارجيا معليا صوت المؤسسة في المحافل العربية والمناظرات المحلية والمحافل الدولية .
سلخ أحد اليبوري أربعة عقود من العمل في الجامعة ، قوامه المواظبة على العمل الدؤوب وإشاعة الكلمة الطيبة ” ألم تر كيف ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ” إبراهيم / 24/25
الأستاذ أحمد اليبوري معروف بتواضعه ونكران الذات ولايبحث عن الأضواء بل هي التي تسعى إليه ، وهو الشجاع المشتغل بأسئلة الراهن يزين كل ذلك سيرة نظيفة وأخلاق عالية ونزوح للصدع بالحقيقة والعدل والصراحة والجرأة وصلابة الموقف ، ولاسيما وهو سليل روح وطنية تشربها من رجال أشاوس من أضراب : عبد الرحيم بوعبيد وأبو بكر القادري وأمجد الطرابلسي ومحمد عزيز لحبابي .
بالإضافة إلى تمرسه بالنقد السردي القصصي والروائي ، انصب إهتمامه النقدي ـ مؤخرا ـ عل النص الشعري يخص تجربة شعرية غنية للشاعر المراكشي محمد بن إبراهيم شاعر الحمراء ، شاعر ظريف المؤانسة ، يقول الشعر على السليقة ولم يعن بجمع شعره بين دفتي كتاب حتى أشرف على ذلك مؤنس الملك الحسن الثاني الفقيه الراوية محمد بن عبد القادربنبين ،بأمر سامي ، وأفرد له الأستاذ أحمد اليبوري كتابا يرصد منتجه المتنوع وسمه بعنوان ” في شعرية ديوان روض الزيتون ” أخضعه لمرآة نقدية تجلو المنحول والصحيح من شعره ، قراءات لقصائد شاعر الحمراء الوطنية منها والطريفة والمواكبة للأحداث العربية والفلسطينية والعالمية غداة الحرب العالمية الثانية .
الأستاذ أحمد اليبوري كان دوما وأبدا مرافعا عن الثقافة المغربية مركزا على الإهتمام بها ، حاثا على عدم تهميشها والعمل على أن تكون في صدارة ، أديب جميل وإنسان رفيع ، يجله الجميع وطوبى لمن أجمعت على حبه الـــــقــــلــــوب .