*عبد الغني السرار*
أَجَّلَت المحكمة الابتدائية بالرباط، أول أمس، النظر في الدعوى القضائية التي رفعها ضد الجمعية المغربية لحقوق الإنسان محام بهيئة المحامين بالرباط، لغاية 8 يناير 2025، والتي يلتمس بموجبها حل الجمعية المذكورة وإصدار أمر بتبليغها، وذلك على خلفية تصريح أو استجواب سابق أدلى به رئيسها لدى بعض المنابر الإعلامية يخالف الإجماع الوطني بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة. وهنا يطرح تساؤل بخصوص المسوغات القانونية لطلب حل الجمعية وتداعياته السياسية؟.
أولا: تأسيس الجمعيات وممارسة أنشطتها: حق مضمون دستوريا
وجبت الإشارة بداية إلى أن الحق في تأسيس الجمعيات هو حق دستوري يضمنه دستور 2011 بمقتضى فصله 12 الذي أكد أن جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تُؤسس وتمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون. ومن الناحية الإجرائية تخضع مسطرة تأسيس الجمعيات لمقتضيات الظهير الشريف رقم 1.58.376 الصادر بتاريخ 15 نونبر 1958 الذي يضبط بموجبه حق تأسيس الجمعيات – كما تم تعديله -، الذي بدوره يؤكد في فصله الثاني على أنه يجوز تأسيس الجمعيات بكل حرية ودون سابق إذن شريطة التقيد بالمسطرة المنصوص عليها في الفصل الخامس من ذات الظهير وفي مقدمتها تقديم تصريح إلى مقر السلطة الإدارية المحلية الكائن به مقر الجمعية مقابل وصل مختوم ومؤرخ يسلم فورا وتوجه السلطة المحلية نسخة من التصريح إلى النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية.
وبالتالي، فإن حق الجمعيات في التأسيس وممارسة نشاطها بكل حرية يقابله واجبها المتمثل في احترام الدستور والقوانين الجاري بها العمل، على اعتبار أن أية مخالفة منها للقوانين الجاري بها العمل أو مخالفتها لأنشطتها المنصوص عليها في قانونها الأساسي، يجعلها تقع تحت طائلة العقوبات التي أسند الدستور؛ من خلال فصله 12؛ اختصاص البت فيها إلى السلطات العمومية بموجب مقرر قضائي، تطبيقا لروح الفصول 3 و7 و36 من الظهير الشريف المتعلق بحق تأسيس الجمعيات كما تم تعديله.
ثانيا: المسوغات القانونية لطلب حل الجمعية المعنية
فيما يخص العقوبات المقررة بموجب الظهير الشريف المتعلق بحق تأسيس الجمعيات، نجده تضمن العديد من الجزاءات، بحسب طبيعة ونوع المخالفة التي قد تأتيها الجمعية بعد أن تصبح مؤسسة بصفة قانونية وبعد سلكها لمسطرة التأسيس المنصوص عليها في الفصل 5، ومن جملة العقوبات المضمنة في بنود وفصول الظهير الشريف المذكور، نجد عقوبة البطلان وعقوبة الحل المنصوص عليهما تباعا في الفصلين 3 و7 من ذات الظهير الشريف المتعلق بحق تأسيس الجمعيات. وهكذا؛ فقد نص الفصل 3 من ظهير الجمعيات على أن كل جمعية تؤسس لغاية أو لهدف غير مشروع يتنافى مع القوانين أو الآداب العامة أو قد تهدف إلى المس بالدين الإسلامي أو وحدة التراب الوطني أو النظام الملكي أو تدعو لكافة أشكال التمييز تكون باطلة.
وعليه، وبالعودة إلى تصريح رئيس الجمعية المذكورة أعلاه، فإنه يدخل تحت طائلة العقوبة المنصوص عليها في الفصل 3 سيما وأنه يمس بوحدة التراب الوطني، وبأحقية المغرب في السيادة على أقاليمه الجنوبية الصحراوية، وذلك من خلال موقف أو “رأي” صريح ذو حمولة سياسية بعيدة كل البعد عن الأهداف التي أُسست وتؤسس من أجلها الجمعيات بصفة عامة باعتبارها تنظيمات يجب أن تبقى بعيدة كل البعد عن تصريف مواقف التنظيمات الحزبية، وهو ما ينطبق على الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي أصبحت تنظيما تابعا تبعية مطلقة لحزب النهج الديمقراطي العمالي الذي أحكم قبضته عليها وجعلها تتحول لواجهة سياسية له مغلفة بجبة حقوقية ومدنية، بالرغم من أن هناك تمايز بين وظيفة الجمعية باعتبارها تنظيم حقوقي محض يسعى من خلال قوانينه الأساسية إلى الدفاع عن قضايا معنوية، وبين وظيفة الأحزاب باعتبارها تنظيمات لها غايات وأهداف سياسية، بل إن الأحزاب نفسها يسري عليها ما يسري على الجمعيات فيما يتعلق بثوابت المملكة، ذلك أنه لا يجوز أن يكون هدفها المساس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي، أو المبادئ الدستورية، أو الأسس الديمقراطية، أو الوحدة الوطنية أو الترابية للمملكة (بموجب الفصل 7 من دستور 2011).
وعليه، وإذا ما تبين أن هناك تنظيما حقوقيا أو مدنيا زاغ عن أهدافه الحقيقة وأصبح يعبر عن مواقف سياسية هدفها المساس بالوحدة الترابية، فإن المشرع المغربي نص على بعض الجزاءات التي يمكن أن تلحق هذا الكيان الجمعوي الحقوقي بموجب الفصل 7 من الظهير الشريف المتعلق بحق تأسيس الجمعيات، حيث أسند للقضاء، من خلال المحكمة الابتدائية المتواجد بدائرة نفوذها الترابي مقر الجمعية الأم صلاحية النظر في طلب التصريح ببطلان الجمعية المنصوص عليه في الفصل 3 من نفس الظهير، وأيضا صلاحية النظر في طلب حل الجمعية خاصة إذا أصبحت في وضعية مخالفة للقانون سواء بطلب من كل من يعنيه الأمر أو بمبادرة من النيابة العامة.
وبالتالي، فإن أي تنظيم جمعوي يخالف ثوابت المملكة الدستورية، كما يحددها دستور 2011 وظهير الحريات العامة لعام 1958، يقع تحت طائلة الفصلين 3 و7 من هذا الظهير. وما يمكن ملاحظته بخصوص الفصل 7 من ظهير الجمعيات هو أنه، وَسَّعَ من حق اللجوء للقضاء قصد طلب التصريح ببطلان الجمعية بقوله “كل من يعنيه الأمر”؛ خاصة إذا لوحظ بأن هناك وقائع أو ممارسات تسعى من ورائها جمعية ما للنيل أو المساس بالوحدة الترابية والوطنية، وهو نفس الحق الذي يتمتع به أي تنظيم جمعوي وسياسي يجعل من مهامه الترافع عن قضية الوحدة الترابية للمملكة، أما عن حق السلطات العمومية فهو ثابت بقوة القانون ويدخل في إطار صلاحيتها المتمثلة في السهر والحفاظ على النظام العام بمدلولاته الثلاث، وذلك على غرار ما وقع مع جمعية جذور الثقافية بمدينة الدار البيضاء، حيث سبق وأصدرت المحكمة المدنية بالدار البيضاء، يوم 26 دجنبر 2018، حكما قضى من خلال منطوقه بحل الجمعية المعنية، وذلك بناء على طلب تقدمت به عمالة الدار البيضاء أنفا، بعلة أن مقر الجمعية المعنية احتضن نشاطا في شكل برنامج حواري، تم بثه مباشرة، وتخللته إساءات واضحة للمؤسسات الوطنية، وكان فيه مساس وإساءة صريحة للدين الإسلامي وتم التعبير فيه عن آراء سياسية بعيدة عن الأهداف التي أُسست من أجلها الجمعية.
ومن جهته، نص الفصل 36 من الظهير الشريف المتعلق بحق تأسيس الجمعيات على أن أي جمعية تقوم بنشاط غير النشاط المقرر في قوانينها الأساسية يمكن حلها طبقا للإجراءات المنصوص عليها في الفصل 7 من ذات الظهير الشريف، وهو نفس المسلك الذي سلكته شركة الخطوط الملكية المغربية بعد أن تقدمت بطلب أمام المحكمة المدنية بالدار البيضاء لحل الجمعية المغربية للطيارين المدنيين بمبرر أنها خالفت النشاط المنصوص عليه في قانونها الأساسي، حين دعت إلى قرار خوض إضراب، وهو الأمر الذي زكته النيابة العامة، التي تقدمت بدورها بملتمس يرمي إلى حل الجمعية بعلة أن أهداف ونشاط الجمعية تتنافى مع القوانين السارية، وتحديدا الفصلين 3 و7 من ظهير الجمعيات، مما نتج عنه تداخل في نشاط الجمعية بين العمل الجمعوي والعمل النقابي، ذلك أن الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمهنية للفئات التي تؤطرها، هو من صميم عمل النقابات وليس الجمعيات، وتبعا لذلك قضت المحكمة المدنية بالدار البيضاء، بتاريخ 25 نونبر 2020، بقبول الدعوى التي تقدمت بها شركة الخطوط الملكية المغربية وبحل الجمعية المذكورة.
أما عن كون الجمعية المغربية لحقوق الإنسان معترف لها بصفة المنفعة العامة بموجب المرسوم رقم 2.00.405 بتاريخ 24 أبريل 2000 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 4795 -11 صفر 1421 (15 ماي 2000)، فهذا لا يعتبر مبررا قانونيا استثنائيا يجعلها خارج المحاسبة أو المساءلة القانونية، بل إنه بموجب المادة 9 من المرسوم رقم 2.04.969 بتاريخ 10 يناير 2005 لتطبيق الظهير الشريف رقم 1.58.376 الصادر في 15 نونبر 1958 بتنظيم حق تأسيس الجمعيات، من حق العامل عندما يُعَايِن عدم تقيد الجمعية المعترف لها بصفة المنفعة العامة بالتزاماتها القانونية أن يوجه إليها إعذارا لتسوية وضعيتها داخل أجل أقصاه 3 أشهر وإذا لم تستجب يرفع الأمر للأمين العام للحكومة لعرضه على رئيس الحكومة قصد اتخاذ قرار بشأنها.
ثالثا: التكلفة السياسية لقرار حل الجمعية المعنية
يبدو، من الناحية القانونية، أن إمكانية سحب صفة المنفعة العامة عن الجمعية وطلب حلها بموجب مقرر أو حكم قضائي أمرا ممكنا وذلك متى توافرت الشروط والأسباب الموجبة لذلك، لكن من الناحية السياسية فإنه من غير المستبعد بل من المحتمل أن تكون لقرار الحل القضائي _لجمعية تأسست في 24 يونيو 1979 وتتوفر على حوالي 96 فرعا محليا بغض النظر عن ما إذا كانت هذه الفروع كلها توجد في وضعية قانونية وتم تجديدها أم لا؟_ تداعيات سلبية وتكلفة سياسية على صورة المغرب وعلى التزاماته الدولية الطوعية تجاه الهيئات الأممية، خاصة بمناسبة تقديم التقرير الدوري السابع المتعلق بإعمال وتنفيذ مقتضيات العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 الذي كان مقررا تقديمه في عام 2020، كما يمكن لقرار الحل أن يكون محط انتقادات وتوصيات من قبل السيدة “جينا روميرو” المقررة الأممية المعنية بالحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات التي من مهامها الدفاع عن تعزيز وحماية الحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، وذلك إسوة ب”ماينا كياي”، المقرر الخاص المعني بالحق في التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات الذي أكد في تقريره 2، في 24 أبريل 2013، المقدم وفقا لقرار مجلس حقوق الإنسان رقم 15/21 على الحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات مُؤَسِّسا موقفه على بلاغ لجنة حقوق الإنسان رقم 1274/2004 المتعلق بتعزيز حرية الجمعيات وحقها في أن تضطلع بأنشطتها بكل حرية.
وما يعزز هذا الطرح، هو أنه بمناسبة الدورة 41 المنعقدة بمجلس حقوق الإنسان بحنيف خلال الفترة الممتدة من 7 لـ 18 نونبر 2022 وبعد تقديم المغرب تقريره 4 للاستعراض الدوري الشامل، كان الإطار القانوني المنظم لحق تأسيس الجمعيات بالمغرب موضوعا لتوصيات طالبت الحكومة المغربية بتمكين المدافعين عن حقوق الإنسان بمجموعة من الضمانات التَّمكِينِية تسمح لهم بممارسة حقهم في تأسيس الجمعيات وأيضا الانضمام إليها نذكر على سبيل المثال التوصيات: 57.94 رومانيا؛ 57.95 الولايات المتحدة الأمريكية؛ 57.96 بلجيكا؛ 57.97 إيطاليا…
كما يمكن لقرار الحل أن يشكل موضوعا لتقرير الخارجية الأمريكية عن حقوق الإنسان الذي يصدر سنويا، ويخصص حيزا مهما منه لحرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات بالمغرب مع ذكر بعض الحالات التي تجد صعوبات في الحصول على الوصل القانوني بما في ذلك التي لا تتقيد بالإجراءات المسطرية المنصوص عليها في الفصل 5 من ظهير الجمعيات، وربما هذا الأمر هو الذي يفسر عدم قيام السلطات؛ لحد الآن؛ بتقديم طلب حل الجمعية أمام الجهات القضائية.