بقلم: أمين سامي خبير الاستراتيجية وقيادة التغيير
إن الرأسمالية العالمية المتوحشة اليوم نجحت في نشر الجهل و التجهيل و التفاهة، في زمن أصبحت فيه المعلومة منتشرة وتعتبر ذات حساسية فارقة، في تغيير مصير الدول والمجتمعات والرقي في مستوى المعيشة.
إن أكبر تحدي يواجه المجتمعات النامية والفقيرة هو انتشار التفاهة و السطحية في المواضيع وغياب التفكير الناقد و التفكير الاستراتيجي الذي يعتبر المحرك الأساس لتقدم الدول، فانتشار التفاهة بهذه السرعة الجنونية ليس طبيعي بل هو مخطط له من عشرات السنين إن لم نقل من مئات السنين، وهذا راجع لضعف السياسات التعليمية التي ترزح تحت ثقل الضغوطات للصناديق الدولية والمنظمات الدولية التي تتحكم في البرامج والمناهج والمقررات من أجل التحكم في وعي وتفكير الإنسان وبالتالي وضع قيود على الفكر من أجل عدم تحريره والتفكير بسطحية في الأمور كلها والتركيز بشكل كبير على الحاجات الفيزيولوجية بدل التفكير و التحرر من الضغوطات الممارسة عليه في مختلف المجالات والتفكير خارج الصندوق واكتشاف الواقع بمختلف تجلياته. إن تقدم الدول مرده إلى ثلاث أمور أساسية حسب رأي الدكتور وعالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة وهي : تعظيم دور المرأة بصفة خاصة والأسرة بصفة عامة فهدم الأسرة وتبخيس دور المرأة وجعلها تخجل من دورها في البيت دفعها للخروج للعمل ومواجهة الرجل والدخول معه في تحدي يؤثر بشكل كبير على الأسرة وبالتالي انهيارها بشكل معجل وهذا يؤثر على التنشئة الاجتماعية للأطفال. الأمر الثاني هو تقدير التعليم والاهتمام به فهو القاطرة التي تجر التنمية بمختلف تلاوينها فهدم التعليم وتبخيس دور المدرس والمعلم وعدم التحفيز وجعل الصناديق الدولية تتحكم في السيادة التعليمية للدول وتتحكم في سلطة القرار التعليمي وتوجه السياسة التعليمية بإدخال قيم جديدة وغربية على قيم المجتمع من أجل طمس هويته وعدم الاهتمام بها والتغني والتفاخر بالقيم الشاذة بالإضافة إلى ضعف المقررات والبرامج والتقليل من قيمة المدرس كلها عوامل تساهم في انهيار التعليم وتساهم في خلق متعلم مشوه غير متزن، ضف على ذلك اللغة التي يدرس بها التعليم، فالتعليم لا يمكن أن ينجح في أي دولة اذا تخلت هذه الأخيرة عن لغتها الأم والأمثلة عديدة لدول اعتمدت على لغتها الأم نذكر على سبيل المثال لا للحصر : أندونيسيا، قطر، ماليزيا، الصين، سنغافورة، اليابان،… فالعائق اللغوي للتلميذ أو الطالب يساهم بشكل كبير في فشله وبالتالي انقطاعه عن الدراسة وبالتالي يصبح عالة على المجتمع بصفة عامة ومن مظاهره الانحراف، الاجرام، والأمثلة كثيرة… والأمر الثالث و الأخير هو الاهتمام بالقدوات والعلماء في مختلف المجالات، فهدم القدوات والتشويش عليهم يؤثر على الفرد لان الإنسان في حاجة ماسة إلى القدوة كي يقتدي بها ويتعلم منها ويكتسب خبرة منها فغيابها يضع الفرد في حيرة من أمره ويجعله يدور في حلقة مفرغة وبالتالي الضياع والدوران في مكانه.
إن الرأسمالية العالمية المتوحشة اليوم وغدا متجهة لتعزيز قيم التفاهة و السطحية ونشر الفساد والحروب بذريعة حقوق الإنسان أو أي ذريعة أخرى،.. وتغييب هويات المجتمعات من أجل خلق فوضى خلاقة تصب في صالحها من أجل نشر قيم الجهل والتجهيل موظفة بذلك مواقع التواصل الاجتماعي والاعلام بمختلف أشكاله.
فالموجة الحضارية الرابعة التي نعيشها اليوم وبدأت بوادرها وعلامتها في الظهور مبنية على إقتصاد المعرفة والرقمنة وأصبحت علامات التطور تظهر على الاقتصادات القوية والاقتصادات البيتروكيماوية في حين أصبحت تأثيراتها السلبية تظهر على اقتصادات الدول النامية والفقيرة في مختلف المجالات، إلا أن هذه الموجة كسابقاتها لها تأثيرات على أربعة عناصر أساسية وهي : المدرسة والسوق والمهن وأخيرا الأسرة.
فعلى مستوى المدرسة فبوادر التحول بدأت تظهر بشكل جلي خاصة مع أزمة كورونا فيروس والتي أبانت عن محدودية التعليم الحضوري كما كشفت عن أزمة عميقة في النظام التعليمي بالنسبة للدول الضعيفة والنامية والتي أظهرت ضعف التعليم وهشاشته وعدم انتاجيته وبالتالي عدم مواكبته للمستجدات والتطورات التكنولوجية، ويتجلى ذلك من خلال التقرير الأخير لمؤشر المعرفة لسنة 2022، ومؤشر الابتكار العالمي لسنة 2022 حيث يتبين أن أغلب الدول العربية تحتل مراتب متأخرة بإستثناء الإمارات و قطر اللتين استثمرتا في المجال التعليمي وتطوير الكادر البشري واعتماد التقنيات التكنولوجية الحديثة في أغلب الوظائف والقطاعات الحكومية و الخاصة و المدنية، ولقد أبانت جائحة كورونا فيروس عن أهمية خاصة وبالغة لثلاث قطاعات حيوية تعتبر هي الركيزة الأساسية لبناء الدولة وتتجلى في :
١. القطاع التعليمي
٢. القطاع الصحي
٣. قطاع البحث العلمي
إن المستقبل الجديد هو للتعلم عن بعد، والتعلم الذاتي الفعال و التعلم الالكتروني ويتضح جليا من خلال المنصات العالمية الرقمية التي أصبحت تدرس ملايين الطلاب من مختلف التخصصات العلمية ومن مختلف البلدان المتقدمة وحتى النامية فالتوجه العالمي اليوم يسعى لتوفير التعليم في منطقة من العالم، دون تحمل تكاليف السفر من أجل الدراسة، فقط وانت في بيتك أو منزلك ممكن أن تدرس في أرقى الجامعات وبأفضل اللغات وأحسن الأساليب والطرق التعليمية وبأفضل المدرسين من حيث الجودة وتحصل في الأخير على أفضل الشهادات العالمية ويتيح لك النظام التعليمي العالمي الجديد التعلم والتدريب في نفس الوقت ويضمن لك أفضل مراكز التدريب لتطوير مهاراتك وكفاياتك بشكل جيد، كما أن الاهتمام بالبحث العلمي من خلال الرفع من الميزانية المخصصة له في مختلف المجالات أصبح ضرورة حتمية ومصيرية لتقدم الدول والشعوب، فمتوسط عدد الباحثين في الدول العربية لا يتجاوز 744 باحثا وهو لا يصل حتى إلى المتوسط العالمي الذي يقدر ب 1267باحثا، ضف أن الميزانية المخصصة للبحث العلمي والبحث والتطوير لا تتجاوز 1% من الميزانية، ناهيك عن ضعف الاتساق بين السياسات التعليمية والترابط بين العلوم والصناعة وسوق الشغل، إن قرار الرئيس السابق دونالد ترامب اعتماد التوظيف على المهارات بدل الشهادات هو قرار الرأسمالية العالمية المتوحشة والتي أنهت زمن لعبة الشهادات ودخلت إلى لعبة جديدة وهي لعبة المهارات أو الكفايات compétences.
إن أغلب الدول المتقدمة ستسعى الى التقليل من ميزانية البنية التحتية للمنظومة التعليمية والاستثمار في المنصات التعليمية العالمية بتوفير أجود المدرسين، وأجود المقررات والبرامج الدراسية، وأحسن الأساليب و الطرق التعليمية العالمية، و… وبالتالي فنحن في مرحلة جديدة من مراحل تشكيل مدرسة القرن 21 لتواكب متطلبات الرأسمالية العالمية المتوحشة والتحول الرقمي المتسارع