*علال مليوة*
احتضنت القاعدة الجوية بالقنيطرة وجماعة المهدية التي توجد بضواحيها، مؤخرا، جزءا من عمليات وتحضيرات المناورات العسكرية المغربية الأمريكية المشتركة المعروفة باسم “الأسد الإفريقي 2022”.
وقد أنعشت هذه الأنشطة الذاكرة الجماعية في عاصمة الغرب، حيث ترسخ في تاريخها إبان الحماية وبعدها أحداثا هامة دولية ووطنية مرتبطة بشكل أساسي بالتواجد الأمريكي بالقنيطرة في أهم قاعدة عسكرية بالمغرب آنذاك، هذا التواجد الذي ساهم في دعم عمل الحركة الوطنية المناهض للحماية الفرنسية، وطبع الحياة الاجتماعية وسط ساكنة الغرب، كما جسد العلاقات العريقة التي كانت تجمع بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. ولعل أهم هذه الأحداث التي أَشرت على بداية هذا التواجد، الإنزال الأمريكي بشاطئ المهدية في 8 نوفمبر من سنة 1942 في إطار عملية عسكرية أطلق عليها اسم “طورش”، أي المشعل، والتي شملت مدن ساحلية أخرى، كالبيضاء، فضالة “المحمدية حاليا” وآسفي، حيث سعت من خلاله دول الحلفاء بزعامة أمريكا إلى محاصرة دول المحور وأساسا القوات الألمانية في شمال إفريقيا، والانطلاق منه لمقاومة الألمان الذين احتلوا جزءا هاما من أوروبا إبان الحرب العالمية التي دامت من سنة 1939 إلى سنة 1945.
وسجلت المصادر التاريخية أن آلاف الجنود الأمريكان بأسلحتهم وعتادهم الحربي نزلوا سنة 1942 في شاطئ المهدية، وكان الهدف الاستيلاء على القصبة التاريخية التي توجد بها والقائمة قريبا من مصب نهر سبو، والتي كانت تأوي القوات الفرنسية التابعة لحكومة “فيشي” المتعاونة مع الألمان، قبل الاستيلاء على القاعدة العسكرية بالقنيطرة التابعة لها، ونشبت بين القوتين معركة حامية معروفة باسم معركة “سيدي بوغابة”، سقط فيها جنود أمريكيون وفرنسيون وكذا مغاربة، ومن أبرز الشواهد على ذلك قبر الجندي المجهول عند المدخل الشمالي للمهدية، وكذا صخرة مهملة تتواجد بإحدى محطات وقوف الحافلات بالمهدية منقوش عليها أسماء الجنود والضباط الفرنسيين ومجندين مغاربة قتلوا في هذه المواجهة التي كان أشرف عليها الجنرال الأمريكي الشهير “باتون”، والتي انتهت باستسلام القوات الفرنسية بعد ثلاثة أيام فقط من القتال والاستيلاء على القاعدة العسكرية بالقنيطرة حيث مكث فيها الأمريكيون إلى منتصف سبعينات القرن الماضي. وقد تمكنوا بفضل هذه القاعدة، بحكم موقعها الاستراتيجي، من مراقبة نشاط السفن والغواصات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، واستمر نشاط هذه القاعدة حتى بعد الحرب، أي خلال ما اصطلح على تسميته بالحرب الباردة.
هذا ولم يكن لساكنة القنيطرة والغرب بصفة عامة ونخبتها أي موقف عدائي تجاه القوات الأمريكية لكون هذه الأخيرة هزمت المحتلين الفرنسيين، ونسجت علاقات ودية مع المواطنين، وكانت النخبة التي تشكلت بالقنيطرة إبان الحماية والتي كانت تتكون من أسر قادمة من سلا وفاس ومكناس والغرب وغيرها، والتي كانت تزاول النشاط التجاري بالأساس قبل أن تنخرط في صفوف الحركة الوطنية لمواجهة نظام الحماية لا ترى أي حرج في التعامل مع الأمريكيين، وهكذا تمكن بعض الوطنيين، خاصة ممن وقعوا على وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، من تسريب أسلحة من القاعدة الأمريكية وتسليمها لرجال المقاومة في عدد من المدن، مما لعب دورا أساسيا في مقاومة المعمر. وكان موقف الوطنيين بالقنيطرة منسجما مع قيادة الحركة الوطنية التي كانت تدافع على استقلال المغرب والشعوب المحتلة وتراهن على القوى الكبرى كأمريكا لدعم هدا المطلب، وهو ما مهد لعقد مؤتمر “أنفا” بالبيضاء سنة 1943، لتنسيق جهود الحلفاء في الحرب والذي شارك فيه رؤساء أهم دول التحالف أمريكا وبريطانيا وفرنسا ،حيث اعتبروا المغرب حليفا يمكن الاعتماد عليه لمواجهة النازية. وتواصل هدا التعاون ببقاء الامريكيين بالقاعدة العسكرية بالقنيطرة حتى بعد استقلال المغرب.وقد ترك الوجود الأمريكي بصماته على الحياة الاجتماعية بالقنيطرة جسد بعضها المطرب المرحوم الحسين السلاوي في إحدى أغانيه الجميلة “الماركان”.وعلى المستوى الشعبي ،كانت القاعدة تُشغل العديد من القنيطريين في المرافق العسكرية والمدنية المتواجدة بها، كما شارك الجنود الأمريكيون في عدة أنشطة مثل إخماد الحرائق، وتقديم المساعدات خلال الكوارث الطبيعية من مواد غدائية خاصة مسحوق الحليب والدقيق المعروف باسم “فورس” وكذا الملابس حيث كانت توزع مجانا على القرويين والمدارس العمومية، وظهرت عادات جديدة في المجتمع القنيطري نابعة من نمط العيش الأمريكي، نخص بالذكر منها تكاثر محلات استهلاك المشروبات الروحية، حيث لازالت بعضها قائمة إلى اليوم، وتتضمن لوحات تشكيلية تؤرخ لهذه المرحلة من تاريخ القنيطرة.
لكن بعد عدة تطورات على المستوى الدولي والوطني، ولعل أهمها التخطيط لانقلاب 1972 بنفس القاعدة، وتوسع المد القومي المرتبط بأحداث الشرق الأوسط وتأثير حركة عدم الانحياز في الساحة الدولية، كل هذه التطورات وغيرها، ساهمت في بلورة تيار من أحزاب وطنية وقوى شعبية معارضة للقواعد الأجنبية بالمغرب، مما عجل بإنهاء التواجد الأمريكي بالقاعدة العسكرية بالقنيطرة منتصف سبعينات القرن الماضي.