تقديم
انطلاقا من فرضية مفادها أن التشريع صناعة، تمكن وتعين على تحقيق العدالة بكل نجاعة وفعالية، فإن التشريع – أي تشريع- مفروض فيه أن يعطي الجواب الأمثل عن مدى احترام مجموعة من الحقوق والحريات الفردية، في إطار ما يعرف بسيادة الدولة كمفهوم فلسفي وقانوني. و هو ما يعبر عنه بعض الباحثين بالسؤال التالي: هل استطاع المشرع -أي مشرع- أن يجيب عن معادلة سيادة القانون أي المصلحة العامة – أو ما يقدره المجتمع أنه مصلحة عامة – من جهة، و ذلك في نسق حقوقي يكفل حقوق الأفراد والمواطنين والجماعات، ولكن أيضا الحريات العامة والخاصة من جهة ثانية، في أفق إرساء حكامة جيدة وأمن قضائي من جهة ثالثة ؟
يرى بعض فقهاء القانون أن السياسة الجنائية، باعتبارها جزءا من السياسات العمومية للدولة، تعكس، بالأساس، التوجهات الأيديولوجية لهذه الأخيرة وتعبر عن موازين القوى بين مختلف الفاعلين والفرقاء الاجتماعيين. علاوة على كونها تعبر عن طبيعة النظام السياسي. من هذا المنطلق، فإنها لا ” تمكن وتعين على توزيع العدالة بكل نجاعة وفعالية على الإطلاق”.
والملاحظ أن دراسة موضوع السياسة الجنائية بالمغرب ومقاربته علميا، يطرح الكثير من الإكراهات، لعل أبرزها اصطدام الباحث بصعوبات منهجية تتعلق بالجانب أو الجوانب المتوخى دراستها. فهل سندرس القوانين الموضوعية والإجرائية بشكل تراتبي أو موضوعاتي؟ ثم، ما مدى ملاءمتها مع المبادئ العامة وهي أربعة : 1- مبدأ المساواة 2- مبدأ الشرعية 3- مبدأ عدم رجعية القوانين 4- مبدأ الطبيعة الشخصية للمسؤولية؟
وهل يجوز دراسة موضوعات محددة في التشريع الجنائي المغربي بإعمال معايير حقوق الإنسان؟ أي أن نخضعها لمصفاة المبادئ المذكورة أعلاه: كقانون العنف ضد النساء وقانون الحق في الحصول على المعلومات وقانون حماية المعطيات الشخصية للأشخاص الذاتيين…الخ. أم إننا سنقتصر على دراسة الجهة أو الجهات التي تتكلف بصناعة السياسة الجنائية بالمغرب و كذا الجهات التي تسهر على تبليغها و تنفيذها ؟
في هذا البحث نميل إلى الاختيار الأخير لما له من راهنية، ولقصر عمر هذه التجربة التي لم تراكم إلا النزر اليسير. حيث إنها في بداية التشكل، وهي مغامرة حادت عن المصدر التاريخي للمشرع المغربي، ولكن قبل هذا وذاك نحبذ التركيز عليها، لما لها من أهمية علمية بالغة .
ولبناء نسق فكري يستجيب للمعايير العلمية، نرى أنه من الضروري – لكي نبق أوفياء لخطنا المعرفي والمنهجي- وضع الإطار المفاهيمي والتوطئة التعريفية لمفهوم السياسة الجنائية.
يعرفها “ميرك وفيتي” بأنها المنهجية التي تكشف وتنظم بطريقة منطقية أفضل الحلول الممكنة لمختلف مشاكل الموضوع وقوانينه، وشكل الظاهرة الإجرامية، أما “ديلم مارتي” فقد رأى بأنها تلك الطرق والإجراءات المستعملة من طرف المجتمع لإيجاد أجوبة للظاهرة الإجرامية ([1]).
وهناك من عرف السياسة الجنائية من خلال فكرة رد الفعل الاجتماعي، ورأى فيها أنها ذلك التنظيم العقلاني لرد فعل اجتماعي ضد الجريمة في مجتمع معين وسلوك معين وفي مرحلة معينة، بهدف مكافحة الإجرام وتحديد طرق الوقاية منه وأسلوب معالجة المجرمين وإصلاحهم.
وكتلخيص أو كتعريف تركيبي لكل هذه التعاريف، يمكن القول أن السياسات الجنائية تمثل مجموعة من الآليات والمنهجية المعتمدة لحماية المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من طرف الدولة ومؤسساتها العمومية. وتكون هي المحددة في خيارات التجريم والعقاب في التشريع الجنائي وفي مكافحة الجريمة والوقاية منها بشكل عام .
والسياسة الجنائية بالمغرب لا تحيد عن هذا التعريف، إلا أنها عرفت مراحل مد وجزر وتجاذبات بين الفرقاء السياسيين والاجتماعيين خلال تاريخ المملكة المعاصر. وعلى العموم، فإن أهم هذه التجاذبات تمثلت في تبعية النيابة العامة للسلطة الحكومية. وهو ما سنتطرق له في المبحث الأول من هذه الورقة، لنناقش في المبحث الثاني استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل.
المبحث الأول : السياسة الجنائية قبل استقلال النيابة العامة “فراغ تشريعي وتداخل في الاختصاصات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية و مرفق القضاء
امتدت هذه الحقبة من بداية الحماية إلى حدود 10-07-2017 تاريخ دخول الظهير رقم 45-17-1 حيز التنفيذ، والرامي بدوره إلى تنفيذ القانون رقم 17-33 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة القضائية المكلفة بقطاع العدل إلى الوكيل العام للملك باعتباره رئيس النيابة العامة، وبذلك سنتطرق للجهة التي أشرفت خلال هذه الفترة على وضع وتنفيذ السياسة الجنائية في مطلب أول فيما سنتطرق في المطلب الثاني لآليات مراقبة تنفيذ السياسة الجنائية.
المطلب الأول : الأجهزة التي اختصت بتنفيذ السياسة الجنائية قبل استقلال النيابة العامة فراغ تشريعي وهيمنة السلطة التنفيذية .
حينما نتحدث عن الترسانة القانونية المغربية بشكل عام، نستحضر مصدرها التاريخي المتمثل في القانون الفرنسي أساسا. ثم المرجعية الإسلامية و كذلك الأعراف السائدة، مع مراعاة مواضيع ومجالات التدخل التشريعي. فما هي الجهة المعهود إليها قانونا بوضع السياسة الجنائية (الفقرة الأولى)؟ ثم ما الجهة التي تكلفت خلال هذه الفترة بتبليغها وتنفيذها (الفقرة الثانية) ؟
الفقرة الأولى : تحديد الأجهزة المكلفة بوضع السياسة الجنائية قبل استقلال النيابة العامة بين الفراغ التشريعي و موقف المجلس الدستوري .
إذا محصنا في النصوص التشريعية، خاصة المسطرة الجنائية، فإنه لن نجد ضالتنا ولن نجد أية إشارة للجهة المختصة بوضع السياسة الجنائية. الشيء الذي جعل المجلس الدستوري يتدخل، باستمرار، لسد هذا الفراغ التشريعي من خلال إصداره القرار المؤرخ ب 15 مارس 2016 تحت عدد 16-991. و تعليقا على المادة 110 من القانون التنظيمي رقم 13-100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. يوضح بأن الجهة المختصة بوضع السياسة الجنائية هي السلطة التشريعية أي البرلمان . وهو القرار- الموقف الذي لم يأخذ بعين الاعتبار دور السلطة التنفيذية بل وتدخلها حتى في الشق التشريعي، وذلك من خلال ما يلي:
أولا: من الناحية المنهجية، فإنه لرصد واضع السياسة الجنائية لا ينبغي البحث عنه بين دفتي قانون المسطرة الجنائية، لأنه، وبكل بساطة، هو أحد تمظهرات السياسة الجنائية. كما أن المسطرة الجنائية هي نفسها أحد مواضيع السياسة الجنائية. و بالتالي، فإنه لا يمكن أن نراهن على التنصيص على صانعها ضمن مقتضياتها و فصولها، و إنما ينبغي البحث في القانون الأسمى منها والذي تستمد مشروعيتها منه وهو الوثيقة الدستورية.
ثانيا : بالرجوع لدساتير المملكة مند دستور 1962 إلى حدود الدستور ما قبل الأخير أي دستور 1996 نجد ضالتنا في ما ندعيه، حيث أسند وضع السياسات العمومية للبرلمان بصريح النص. وبما أن السياسة الجنائية هي جزء لا يتجزأ من السياسات العمومية، فإن السلطة التشريعية هي صاحبة الاختصاص، لكن ليس بشكل مطلق، كيف ذلك ؟
إن آليات ومساطر سن القوانين متنوعة وتتجاذبها السلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث يمكن تفصيلها على الشكل التالي :
1-هناك ما يعرف بمقترحات قوانين، وهي النصوص التي تقترحها الفرق البرلمانية، فتمر مسطرة التشريع عبر مراحل محددة. وهنا، نتحدث عن سياسة جنائية خالصة للسلطة التشريعية. وهي نادرة، حيث أن أغلب التشريعات تأتي بمبادرة حكومية. وهو ما سنتطرق له بعده .
2- مشاريع قوانين وهي التي تتقدم بها الحكومة، والتي تمر بعدة مراحل حتى تصل للمصادقة البرلمانية. وهنا، نتحدث عن سياسة جنائية تشاركية بين البرلمان والحكومة إلا أن الهيمنة تبقى لهذه الأخيرة لما لها من إمكانيات وآليات و موارد بشرية مؤهلة ووسائل مادية وتقنية في جميع مناحي الحياة والحكم. و تبقى هذه الآلية التشريعية الأكثر استعمالا لفعاليتها على حساب مقترحات القوانين التي يظل اللجوء إليها جد محدود .
3-التفويض البرلماني : يعد بمثابة آلية تشريعية يتم اللجوء إليها في مجال وزمان محددين، حيث يعمل البرلمان على تفويض سلطة التشريع، وتستعمل هذه الآلية في حال الاستعجال أو الخصوصية والاستثناء (المراسيم الحكومية)، وتستعمل كذلك في محاصرة نوع خاص من الجرائم، كالجرائم الالكترونية والاقتصادية والمالية وغيرها. حيث يحتاج هذا النوع من الجرائم للسرعة والفعالية من جهة، واستعمال مصطلحات فضفاضة وغامضة قابلة للتأويل بشكل واسع من جهة ثانية.
4-المراسيم الملكية: هي تلك التي تصدر عن الملك في حالة الاستثناء أو حين يتعطل البرلمان للأسباب المسطرة بدستور المملكة. و هي آلية لا يمكن تصنيفها لا في اختصاص البرلمان و لا الحكومة و إنما هي حكر على رئيس الدولة بهذه الصفة.
بناء على ما سبق، فإن القول بكون البرلمان هو من يضع السياسة الجنائية هو جواب تبسيطي وساذج لموضوع معقد، سواء قبل استقلال النيابة العامة أو بعد الاستقلال. وبالرجوع لدستور المملكة، وبالعودة، كذلك، إلى ما يسمى بالأعراف السياسية خلال الفترة الممتدة من استقلال المغرب إلى الآن، نكتشف أن الأمر يتعلق بأربع حالات تشريعية متداخلة في الكثير من الأحيان.
الفقرة الثانية : الجهة المختصة بتبليغ وتنفيذ السياسة الجنائية قبل استقلال النيابة العامة: تكريس للتبعية وهيمنة السلطة التنفيذية.
أولا : تبليغ السياسة الجنائية
تنص المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية على أنه “يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية أو يبلغها للوكلاء العامين الذين يسهرون على تطبيقها ([2]). وله أن يبلغ إلى الوكيل العام للملك ما يصل إلى علمه من مخالفات للقانون الجنائي وأن يأمره كتابة بمتابعة مرتكبيها أو يكلف من يقوم بذلك وأن يرفع للمحكمة المختصة ما يراه الوزير ملائما من ملتمسات كتابية ([3]).
إن نظرة سريعة غير متعمقة في موضوع التبليغ تجعلنا نجزم و بدون أدنى شك أن الجهة المكلفة بتبليغ السياسة الجنائية خلال هذه الفترة هي وزير العدل. لكن هل الأمر بنفس السهولة بالنسبة لتنفيذ هذه السياسة ؟
ثانيا : تنفيذ السياسة الجنائية
1-وزير العدل
تسعفنا المادة 51، إلى حد كبير، للقول بأن وزير العدل يتكلف ، مبدئيا، بعملية التنفيذ أيضا إلى جانب التبليغ . خاصة إذا علمنا أن المرسوم رقم 17-12-2 الصادر بتاريخ 26 يناير 2012 المتعلق باختصاصات وزير العدل ينص في مادته الأولى على ما يلي :” يمارس وزير العدل والحريات الاختصاصات المسندة إلى السلطة الحكومية المكلفة بالعدل بموجب النصوص الجاري بها العمل وعلاوة على ذلك يساهم في إعداد السياسة الحكومية في مجال الحريات وحقوق الإنسان والنهوض بها في مجال اختصاصه والعمل على تبليغها وتنفيذها بتنسيق مع القطاعات و الهيئات المعنية”.
وبقراءة المادتين أعلاه يمكن القول، إن المادة 51 حسمت في الجهة الموكول لها تنفيذ السياسة الجنائية والذي لن يكون سوى وزير العدل، سواء بطريقة مباشرة من خلال ممارسته وتحريك الدعوى العمومية أو بتوجيه تعليمات كتابية للوكلاء العامين في قضية معينة من أجل تحريك المتابعة، أو من أجل تقديم ملتمسات كتابية للمحكمة المختصة، أو بطريقة غير مباشرة من خلال تبليغ الوكلاء العامين للملك بتوجهات السياسة الجنائية. وهو ما كرس تبعية النيابة العامة في هذه الفترة للسلطة التنفيذية المكلفة بالعدل.
2-النيابة العامة باعتبارها جهازا خاضعا لتسلسل رئاسي قمته وزير العدل
يبقى دور الوكلاء العامين بالمحاكم الاستئنافية ووكلاء الملك بالمحاكم الابتدائية أساسيا. بل ومحوريا في تنفيذ السياسة الجنائية، حيث هم المتواجدون بالميدان. وبالتالي، ينفذونها كل في حدود اختصاصهم.
3-القضاء الجالس
يتعلق الأمر تحديدا بقضاء التحقيق والغرف الجنحية بمحاكم الاستئناف، بل وحتى هيئات الحكم في القضايا الجنحية والجنائية، على اختلاف درجاتها وأنواعها، تتكلف بتنفيذ جانب هام من السياسة الجنائية، رغم أنها لا تأخذ التعليمات من أحد فيما يخص القضايا المكلفة بها. لكن، بتطبيقها للنص القانوني الذي يعبر عن سياسة جنائية معينة دون غيرها، ومن داخل هذا التطبيق، أيضا، عندما يراعي ظروف المتهم وكذا المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي للوطن، فإنه يطبق السياسة الجنائية المحددة من قبل الجهات المختصة. و لدينا في التاريخ المعاصر سجل حافل بالمحاكمات السياسية والتي أقرت الدولة على مستوى هرمها أن القضاء لم يكن محايدا وأنه أصدر أحكاما بالعقوبات القصوى في ملفات مفبركة، وهي الفترة التي اصطلح عليها بسنوات الجمر والرصاص.
4-الضابطة القضائية
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نبخس الدور الذي تمارسه الضابطة القضائية في تنفيذ السياسة الجنائية. إلا أن ازدواجية تبعيتها قد ينظر إليها من الزاوية الأمنية كما لو كانت عرقلة. لكن من الفاعلين الحقوقيين من ينظرون إليها بعين الرضى لما تلعبه النيابة العامة من دور في الحد من الشطط والتعسف ومراقبة التطبيق السليم للقانون. فما هي الجهات الأخرى والآليات التي تسهر على مراقبة تنفيذ السياسة الجنائية ومدى فاعليتها ؟
الفقرة الثانية : مدى فاعلية آليات مراقبة تنفيذ السياسة الجنائية قبل استقلال النيابة العامة
إن مبدأ الرقابة حاضر من أجل الحد من أي شطط كيفما كان ومن أية جهة. لكن، ما هي آليات مراقبة مدى سلامة تنفيذ السياسة الجنائية؟ خاصة أن الأجهزة والجهات المكلفة بتنفيذ السياسة الجنائية لم تتغير قبل استقلال النيابة العامة وبعدها، سواء خلال مرحلة تبعيتها لوزير العدل أو خلال المرحلة الحالية حيث تتبع للوكيل العام لمحكمة النقض رئيس النيابة العامة.
إن مراقبة تنفيذ السياسة الجنائية يتم عبر مرحلتين أساسيتين : الأولى هي الآلية الرسمية والتي سنتطرق لها أولا فيما سنرجئ الآلية المجتمعية لنناقشها ثانيا .
أولا : الآلية الرسمية لمراقبة تنفيذ السياسة الجنائية
تنقسم الرقابة الرسمية لتلك لرقابة داخلية وذاتية لجهاز النيابة العامة من جهة ورقابة خارجية يمارسها البرلمان. غير أن نجاعة هذين النوعين من الرقابة يختلف حسب درجة تأثيرهما على المتدخلين في تنفيذ السياسة الجنائية .
1-الرقابة التسلسلية الإدارية
بالرجوع لقانون المسطرة الجنائية وكذا قانون التنظيم القضائي المؤرخ ب 15-07-1974، نجد أعضاء النيابة العامة يخضعون للتسلسل الإداري. فوكيل الملك له سلطة الإشراف والمراقبة على نوابه حسب المادة 40 من القانون نفسه ([4]).
ويراقب الوكيل العام للملك قضاء النيابة العامة داخل حدود اختصاصه الترابي، كما أن له حق تفتيش وكلاء الملك ومراقبتهم في مهامهم وتوجيه التعليمات لهم وفقا للمواد 16-17-18 من ظهير التنظيم القضائي.
ويمارس أعضاء النيابة العامة مهامهم تحت سلطة وزير العدل وفقا للمادة 56 من القانون الأساسي لرجال القضاء المؤرخ في 11 نونبر 1974، الذي نص على ما يلي : ” يوضع قضاة النيابة تحت سلطة وزير العدل وله حق مراقبة وتسيير رؤسائهم الأعليين ” ([5]) .
ومعلوم أن وزير العدل لا يعتبر من أعضاء النيابة العامة لأنه ليس قاضيا. لكن وضعها تحت سلطته اقتضاه منصبه كعضو في الحكومة مكلف بتنفيذ توجيهاتها. أي، سياساتها العامة. كما أن الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك – كل في حدود اختصاصاته – يراقبون مرؤوسيهم ويراقبون مدى سلامة وشرعية تنفيذ هؤلاء الأخيرين للسياسة الجنائية ومدى التزام الشرطة القضائية بتعليماتهم، وتفتيش مخافر الشرطة والدرك والمؤسسات السجنية وإصلاحات تأهيل الأحداث الجانحين، مع التأكد من عدم التعسف أو المس بحرية المواطنين ومراقبة دواعي الاعتقال الاحتياطي ومبرراته، وظروف الحراسة النظرية وسلامة إجراءاتها.
هذه الرقابة تتميز بطابعها الشخصي – التأديبي والزجري، سواء من خلال قرارات التأديب الإداري للمخالفين، أو حتى إمكانية تحريك المتابعات في حق من ثبت ارتكابه لأفعال جرمية بمناسبة قيامه بمهامه. ولذلك تبقى هذه الآلية أكثر فاعلية.
2-البرلمان
من الناحية النظرية – مع الكثير من التجاوز- يمكن القول، إن البرلمان صاحب اختصاص وضع السياسة الجنائية، وهو المخول قانونا بمراقبة تنفيذها، الشيء الذي كرسه المجلس الدستوري في قراره الشهير عدد 992-16 الصادر بتاريخ 15-03-2016. و هو يبث في مدى دستورية النظام الأساسي للقضاة، و ذلك في معرض مناقشته للمادة 25 من هذا النظام، مبرزا بأن «صلاحية وضع السياسة الجنائية التي تعد جزءا من السياسات العمومية من خلال قواعد زجرية لمكافحة الجريمة وحماية النظام العمومي وصون حق الأشخاص وسلامة ممتلكاتهم وحرياتهم. كما أن تحديد الكيفيات والشروط القانونية لممارسة قضاة النيابة العامة لمهامهم تظل من الصلاحيات المخولة للسلطة التشريعية التي يعود لها اختصاص تقييم هذه السياسة طبقا لأحكام الدستور. غير أن هذه الرقابة وإن كانت تتناول الاستراتيجية العامة للسياسة الجنائية إلا أنها تبقى محدودة الفاعلية في مراقبة الأجهزة المكلفة بتطبيق هذه السياسة ([6]) .
ثانيا : الآلية المجتمعية كآلية غير رسمية لمراقبة تنفيذ السياسة الجنائية
في الوقت الذي تسن سياسات جنائية في بلد ما وتنفذ، فحتما ستتطور آليات مجتمعية من قبل فاعلين ومهنيين وحقوقيين ومهتمين من أجل تقييم السياسة الجنائية من جهة وتنفيذها من جهة ثانية. ومدى احترامها صناعة وتطبيقا للحقوق والحريات ومدى احترام مبدأ المشروعية.
فالمهنيون والمراقبون والباحثون وفقهاء القانون والمنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية، ومجموعات الضغط ووسائل الإعلام، كلها تدخل في خانة الآليات غير الرسمية. حيث بدأ يتعاظم دورها في السنين الأخيرة، من خلال أنشطتها في تتبع السياسات الجنائية وجهودها في رصد اختلالات هذه السياسات. ومن خلال ضغوطها ومراقبتها الصارمة، في أفق تغيير القانون، بما يكفل تحقيقه للعدالة خاصة إذا ما تم اعتباره متجاوزا أو فيه حيف، يجعله ينتصر للمجموعة المهيمنة والحاكمة على حساب أقليات مثلا أو يتضمن نوعا من التمييز العنصري. وفي حالات كثيرة، يجري الضغط من قبل هذه المنظمات من أجل التطبيق السليم للقانون إذا تبين أنه شابت عملية تطبيقه وتنزيله خروقات.
فهذه الآلية، بقدر ما تشكل قوة اقتراحية تساهم بشكل أو بآخر في صناعة السياسة الجنائية، فإنها، من خلال آليات الانتقاد والاحتجاج، تقوم بالضغط من أجل تفعيل سياسة جنائية أكثر احتراما لمنظومة حقوق الإنسان وكذا الدفع في أفق ملاءمة القوانين الوطنية مع مبادئ حقوق الإنسان والشرعة الدولية لحقوق الإنسان عموما، وهو صراع دائم و مستمر .
غير أن تفاعل الدولة مع هذه الآلية، يبقى رهينا بدرجة انفتاح هذه الدولة على المجتمع المدني والحقوقي وهامش المقاربة التشاركية التي تعتمدها في التعاطي مع المقترحات والانتقادات. وتبقى هذه العلاقة حذرة متوجسة، في عمومها، يحكمها الصراع الذي قد يحتد في أوقات وقد يخفت في أوقات أخرى.
خلاصة هذه المرحلة أن وضع وتنفيذ السياسة الجنائية، في هذه الفترة، كان من اختصاص وزير العدل، الذي يحاسب ويساءل أمام البرلمان. هذا الأخير الذي يقيم عمله في تنفيذ السياسة الجنائية التي يضعها له. ويجد الدارس نوعا من التعليل المنطقي، بالرغم من تسجيل هيمنة وزير العدل على السياسة الجنائية، سواء من حيث وضع الاستراتيجيات الكبرى للسياسات الجنائية أو من حيث رئاسته للأجهزة التي تسهر على تنفيذ و تطبيق السياسة الجنائية. لكن مع كل ذلك، لا بد من التذكير، أن هذا النسق قد تغير كما هو معلوم وانتقلنا لمرحلة مفصلية وتاريخية بكل المقاييس في تاريخ المغرب عموما وقطاع العدالة بشكل خاص، وهي مرحلة ما بعد ترقية مرفق القضاء لسلطة قضائية مستقلة ودسترتها بمقتضى دستور 2011 المتمخض عن حراك ما سمي بالربيع العربي. ثم دخول قانون نقل سلطات وزير العدل إلى الوكيل العام لمحكمة النقض باعتباره رئيسا للنيابة العامة. فما هي أبرز ملامح هذه المرحلة التي لازالت في طور التشكل؟ وما مدى نجاعة هذا النظام الجديد في بلورة وتنفيد سياسة جنائية تتلائم مع مجتمع يتحول جذريا ؟ ثم ما هي طبيعة الرقابة التي ستمارس على واضعي ومبلغي ومنفذي السياسة الجنائية ؟
سنحاول أن نقترب أكثر من كل هذه الإشكالات من خلال مقاربة هذه الفترة وذلك في مبحث ثان.
المبحث الثاني: واقع السياسة الجنائية بعد استقلال النيابة العامة، تراجع عن مكتسب ربط المسؤولية بالمحاسبة لفائدة مبدأ فصل السلط .
سوف نناقش هذا الشق في مطلبين، نخصص المطلب الأول لإرهاصات استقلال النيابة العامة، ثم سنناقش في المطلب الثاني الأجهزة التي تكلفت فعليا بتبليغ وتنفيذ السياسة الجنائية.
المطلب الأول: إرهاصات استقلال النيابة العامة عن سلطة وزير العدل بين الفصل التام وتوزيع الاختصاصات
سنتناول هذا الموضوع بالدرس والتحليل من خلال الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة.
الفقرة الأولى: الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة أي تصور لاستقلال النيابة العامة
إن الحديث عن استقلال النيابة العامة جاء في سياق عام، حيث أن المغرب الرسمي وقف على أعطاب منظومة العدالة. تشخيص عبرت عنه خطب ملكية بشكل مستمر، ابتدأت مع خطاب العرش لسنة 2008 ثم خطاب 20 غشت 2009. و هو الخطاب الذي ألقاه الملك بمناسبة تنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني حول منظومة العدالة بمدينة الدار البيضاء. إلا أنه كان علينا الانتظار حتى 9 مارس 2011 ليعطي الملك انطلاق الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة وذلك بمناسبة الخطاب الملكي الذي اعتبر نقطة تحول في تاريخ مغرب العهد الجديد بالإعلان عن إصلاح دستوري شامل. حيث أعلن الملك على ضرورة الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة وكذا تعزيز صلاحيات المجلس الدستوري لتفعيل مبدأ سمو الدستور وسيادة القانون، وتكريسا لذلك خصص دستور 2011 الباب السابع المتألف من 22 فصلا للسلطة القضائية وتخصيص الباب الثامن المتألف من ستة فصول للمحكمة الدستورية ([7]) .
ومن أجل أجرأة مجموعة من المبادئ الأساسية التي أقرها دستور 2011 في مجال القضاء، تم إحداث هيئة عليا للحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة، عهد إليها بمناسبة تنصيبها بتاريخ 8 ماي 2012 الإشراف على هذا الحوار ورفع توصيات للملك، وذلك بغية بلورة ميثاق وطني لإصلاح منظومة العدالة. هذا الأخير الذي اقترح توجهات كبرى للإصلاح المنشود، من بينها استقلال النيابة العامة وفصلها عن السلطة التنفيذية وإسناد رئاستها للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض مع تخويل وزير العدل صلاحية اقتراح السياسة الجنائية التي يتم إقرارها والمصادقة عليها من طرف البرلمان، وإحداث مفتشية عامة لدى وزارة العدل تتولى التفتيش الإداري والمالي تحت سلطة وزير العدل، مع إعادة النظر في الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي في اتجاه ترشيدهما، و إعادة النظر في آليات وشروط اشتغال الضابطة القضائية مع تفعيل مراقبتها من طرف النيابة العامة، وكذا العمل على تشجيع اللجوء إلى العقوبات البديلة و إقرار العدالة التصالحية .
فالهدف الفرعي السابع يتحدث عن استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية بمقتضى الآلية 37، فيما نصت الآلية 38 على قيام وزير العدل بتبليغ مقتضيات السياسة الجنائية كتابة إلى الوكيل العام للملك – رئيس النيابة العامة- على أن يحيط هذا الأخير وزير العدل علما بالإجراءات والتدابير المتخذة في السياسة الجنائية. ثم تأتي الآلية 41 التي تلزم الوكيل العام، رئيس النيابة العامة، بتقديم تقرير سنوي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بشأن تنفيذ السياسة الجنائية وسير جهاز النيابة العامة الذي يكون موضوع نقاش داخل المجلس ([8]) .
الفقرة الثانية: مخرجات الحوار الوطني بين تداخل مبدأ فصل السلط ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة .
بالاطلاع على النقاش الدائر في هذا الشأن بين منتصر للاستقلال ومعارض له، وبقراءة متأنية للتوصيات، يبدو جليا أن الساهرين على صياغة الميثاق كان لديهم تداخل بين مبدأ استقلال السلطة القضائية، ومن داخلها استقلال النيابة العامة، ومبادئ ربط المسؤولية بالمحاسبة وتوازن السلط وتعاونها وذلك من خلال الآتي :
أولا : إسناد رئاسة النيابة العامة للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض.
ثانيا: أسند للسلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل مسؤولية اقتراح السياسات الجنائية للمصادقة عليها من طرف السلطة التشريعية.
ثالثا: أسند للسلطة التنفيذية مسؤولية تبليغ السياسة الجنائية للوكيل العام بمحكمة النقض .
رابعا: أسند تنفيذ السياسة الجنائية للوكيل العام لدى محكمة النقض باعتباره رئيسا للنيابة العامة .
خامسا: أصبح إشراف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية رمزيا بدليل الآلية 39 التي تحدثت عن إحاطة وزير العدل بالإجراءات المتخذة بشأن تنفيذ السياسة الجنائية دون إعطائه الحق في إبداء ملاحظات أو ما إلى ذلك .
سادسا: مسؤولية مراقبة تنفيذ السياسة الجنائية أسندت للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في حدود تقديم تقرير يناقشه المجلس.
سابعا: اقتصرت مراقبة المجلس الأعلى بمناقشة التقرير دون أية جزاءات في حال الخطأ أو الإخلال.
إن هذه التوصيات جزء من توصيات أخرى تمت أجرأة بعضها بمقتضى مجموعة من القوانين في حين تم الاستغناء عن بعضها رغم أهميتها، فيما بقي جزء آخر معلق على إصدار قوانين، وتحديدا مشروع قانون بتعديل القانون الجنائي ومشروع قانون بتعديل المسطرة الجنائية.
و جدير بالذكر أن أهم قانون، على الإطلاق، طبع فترة الإصلاحات القضائية هو الظهير رقم 45-17-1 الصادر بتاريخ 30-08-2016 بتنفيذ القانون رقم 17-33 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة. و هو القانون المفصلي والتاريخي، والذي أسس لمرحلة جديدة في تاريخ المغرب على المستويين القضائي والسياسي، حيث تناوله الباحثون بين مؤيد له جملة وتفصيلا وبين مؤيد للمبدأ ومنتقد لأجرأته، و بين منتقد للمبدأ والأجرأة معا وذلك باستحضار القانون المقارن، وخصوصا القانون الفرنسي المصدر التاريخي الذي لازال محافظا على النمط القديم وكذلك نماذج الملكيات الأوربية في مجملها .
المطلب الثاني : هل وفق المشرع المغربي في تبني مبدأ فصل السلط واستقلال النيابة العامة دون المساس بمبادئ دستورية أخرى؟
بعد دخول قانون استقلال النيابة العامة حيز التنفيذ بتاريخ 10-07-2011، أصدر رئيس النيابة العامة منشورا رقم 1 موجه للسادة المحامين العامين لدى محكمة النقض والوكلاء العامين لدى محاكم الاستئناف ووكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية، وهو بمثابة إعلان ميلاد ووجود. وهو المنشور الذي شكل خارطة طريق ليس في الشق المتعلق بالتبليغ والتنفيذ، فحسب، بل تجاوزه ليوضح ملامح السياسة الجنائية من منظور مصدر المرسوم ويرتب الأولويات ويفسر مقتضيات قانونية. وبذلك أصبح جهة وضع وسن للسياسة الجنائية كذلك .
وإذا كان الأمر محسوما من الناحية التشريعية فيما يخص الجهة التي تضع السياسة الجنائية، فإنه من الناحية العملية يتضمن غموضا كبيرا. هذا الغموض كرسه تفصيل مهم متعلق بتقرير رئيس النيابة العامة لسنة 2017 والتقارير اللاحقة التي يتم رفعها للمجلس الأعلى للسلطة القضائية استنادا للمادة 110 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، حيث ينص على ما يلي :” يتلقى المجلس المذكور عدة تقارير”، من بينها تقرير الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض باعتباره رئيسا للسلطة القضائية، بشأن تنفيذ السياسة الجنائية قبل مناقشته أمام لجنتي العدل والتشريع بمجلسي البرلمان “.
ويشكل تقرير النيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية فرصة سنوية لرئاسة النيابة العامة من أجل تجديد التزامها بالمقتضيات الدستورية المتعلقة بربط المسؤولية بالمحاسبة ([9])، إلا أن التقرير ذاته طرح إشكالية تتعلق بكون رئيس النيابة العامة هو عضو في الآن ذاته بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بالإضافة إلى أن القانون يغل يد المجلس المذكور من إبداء ملاحظاته في حالة الإخلال، ويكتفي بمناقشته دون ترتيب. أي جزاء ولئن كانت المادة 110 من القانون التنظيمي تنص على مناقشة التقرير أمام لجنتي العدل والتشريع بمجلسي البرلمان، باعتبار هذا الأخير هو صانع هذه السياسة وبالتالي يحق له مراقبة سلامة تطبيقها، فإن السيد رئيس النيابة العامة جدد رفضه الوقوف أمام هذه اللجنة بمقتضى تقريره السنوي الثاني، مدافعا عن موقفه، معتبرا أن السلطة القضائية التي تنتمي إليها النيابة العامة هي سلطة مستقلة، ولا يجوز، بأي حال من الأحوال، تقديم هذا التقرير أمام السلطة التشريعية ([10]) في تجاوز واضح لثلاثة مبادئ دستورية أخرى، وهي مبدأ توازن السلط ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومبدأ تعاون السلط، المنصوص عليه في الفصل الأول من دستور المملكة، حيث ينص على ما يلي: ” يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها والديموقراطية والمواطنة التشاركية وعلى مبادئ الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة” .
وبالرجوع لأحد أهم مبدعي مبدأ فصل السلط “مونتسكيو” لما نادى في كتابه “روح القوانين” سنة 1748 بهذا المبدأ، كضمان لحماية الأفراد والجماعات من الاستبداد في ممارسة السلطة وتمركزها بيد واحدة، فإنه كان يقصد استقلال السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية ولم نجد له أي حديث عن استقلال السلطة القضائية، ناهيك عن استقلال السلطة القضائية ([11])، حيث هذا النقاش هو حديث كرسته المواثيق الدولية. نخص بالذكر معايير ميلانو، ومعايير لجنة حقوق الإنسان المتعلقة بضمانات المحاكمة العادلة، ثم معايير بنغالور والمعايير الدولية للميثاق العالمي للقضاء .
إلا أن النقاش لازال مستمرا بصدد اعتبار النيابة العامة جزءا من السلطة القضائية أم لا، حيث صدر قرار عن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بتاريخ 16-12-2010 يقضي بأن النيابة العامة ليست سلطة قضائية، وهو القرار الذي صادقت عليه محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 15-12-2010، وبالتالي ليس من حقها حرمان أي شخص من حريته.
خاتمة:
عموما، إن واقع السياسة الجنائية بعد استقلال النيابة العامة يطرح عدة تساؤلات بالنظر لحداثة التجربة المغربية. ويبقى سؤال الجدوى مطروحا، ثم هل نجح الساهرون على صناعة وتبليغ السياسة الجنائية بالمغرب وتنفيذها في رهان ومعادلة بسط سيادة الدولة وسلطانها دون المساس بالحقوق والحريات الخاصة والعامة، و جعل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان تسمو على القانون الوطني؟ و هي معادلة من الصعوبة بمكان، بالنسبة لدولة تتمرن على الديموقراطية، الفصل فيها. ثم، هل لازال سؤال السيادة مطروحا أم أن هناك رهانات أخرى يجب أن يركبها القضاء ومعه النيابة العامة. منها جعل هذين الأخيرين رافعة للتنمية الاقتصادية للبلد والانخراط في طمأنة الرأسمال الوطني وجلب الرأسمال الأجنبي في ملحمة بناء دولة الغد. وهذا لن يتأتى إلا باطمئنان الفرد والجماعة على حريته وسلامته الجسدية وحقوقه الاقتصادية والاجتماعية.
و لنا في مرحلة كرونا والحجر الصحي أمثلة على صعوبة الوضع، حيث أن الدولة ممثلة في وزارة الداخلية أعلنت الحجر الصحي بتاريخ 20 مارس 2020 دون سند من القانون. وبعد تعالي الأصوات الحقوقية والقانونية بتفصيل وضع لا يستند إلى أية مشروعية قانونية، سارعت أجهزة الدولة لتدارك الأمر فأصدرت قانون الطوارئ بتاريخ 24 مارس 2020، أي بعد مرور أربعة أيام .
في خضم ذلك، سارعت رئاسة النيابة العامة إلى إصدار منشور عممته على مصالحها، يوضح أن القانون المذكور يسري ابتداء من 20 مارس 2020، فتعالت مرة أخرى الأصوات، ذاتها، تحذر من خرق مبدأ دستوري غاية في الأهمية وهو مبدأ عدم رجعية القوانين. فعادت النيابة العامة وعممت بلاغا تصحيحيا يوضح أن بدأ السريان هو 24 مارس وليس 20 مارس 2020، فبدت رئاسة النيابة العامة في موقف الارتباك.
*محامي وناشط حقوقي
[1] – امحمد أقبلي، السياسة الجنائية بالمغرب : الواقع والآفاق 2004-2018، مطبعة الأمنية بالرباط -الطبعة الأولى ص 08-09.
[2] – القانون رقم 22-210 المتعلق بالمسطرة الجنائية الصادر بتنفيذ الظهير الشريف رقم1.02.255 المؤرخ في 25من رجب 1423 (3اكتوبر 2002 ) كما تم تعديله وتتميمه بمجموعة من القوانين، منشور في الجريدة الرسمية عدد: 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1423(30يناير 2003)ص:315.
[3] – القانون رقم 22-2010 \المشار إليه في الهامش رقم (3)
[4] – ظهير شريف بمثابة قانون رقم:1.74.338 بتاريخ 24 جمادى الثانية 1394 (15 يوليوز1974) يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة كما تم تعديله بمجموعة من القوانين -الجريدة الرسمية عدد:3220 بتاريخ جمادى الثانية 1394(17يوليوز 1974/ص:2027.
[5] – قانون التنظيم القضائي المشار إليه في هامش رقم (5)
[6] – قرار المجلس الدستوري عدد:992-16 الصادر بتاريخ :2016.03.15 تمت الإشارة إليه بمنشور رقم (1) لرئيس النيابة العامة
[7] – دستور 29 يوليوز 2011 المنشور في الجريدة الرسمية عدد:5964 مكرر بتاريخ :28 شعبان 1432 (30 يوليوز 2011 ) ص :3600
[8] – ميثاق إصلاح منظومة العدالة -الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة -يوليوز 2013.
[9] – قرار المجلس الدستوري المشار إليه في الهامش رقم(7).
[10] – يوسف البحيري، حقوق الإنسان- المعايير الدولية وآليات الرقابة، المطبعة والوراقة الوطنية، الداوديات، الطبعة الأولى- مراكش ص:26.
[11] – نفسه، ص:165.
تحليل احترافي ودقيق و في نفس الآن مبسط لملف مهم يخص الترسانة القانونية للسياسة الجنائية بالمملكة منذ استقلال البلاد حتى دستور 2011.
مع تحياتي و احترامي للاستاذ