أسامة الصغير
لحظاتٌ من تاريخ المجال
إن البحث في الامتدادات التاريخية عملية محفوفة بالمخاطر والأسئلة المفتوحة، وهذه فقط محاولة تمهيدية لنفهم الامتدادات العريقة والطبقات الجينالوجية لأرض الانتماء، فمن لا قديم له، لا جديد له، ومن لا يدرك رأسماله التاريخي المادي واللامادي، يَتعذَّر عليه الوعيُ بالرِّهانات والتطلُّعات، بل يَصعُب عليه أن يَعرف معنى الهوية والأرض التي يَقف عليها مهمَا تَفَوّهَ. لذلك ستكون الطُّوبُّونِيمْيا سَبِيلَنا إلى الكشف عن أمجادٍ ضائعة بما أنه الفرعُ العلمي المُتخصّص في دراسة تاريخ ودلالات أسماء الأمكِنة.
يُعتبر الاسمُ الجغرافي ” أزغار ” أقدمَ تصنيفٍ جُغرافي معروف لمنطقةِ الغرب، وهو يعني بالأمازيغية ” السَّهل “. إنه ذلك السهلُ الغرباوي الخَصيب والاستراتيجي الذي نَزح إليه الأمازيغُ من أقاصي الجنوب المغربي بحثاً عن الاستقرار والأمان في ظِلِّ ما كان يُعرَف قديماً باسم مملكة موريتانية.
مع وصول الرُّومان إلى منطقة الغرب 100 سنة قبل ميلاد المسيح، اتُّخِذت منطقةُ الدعادع مُسْتَقَرًّا طوالَ قَرنَيْنِ من الزمان، ولَعَلَّ السببَ هو مَوقعُ الوسَط الاستراتيجي الذي يَربط ويَضبِطُ الخَطَّ الحضاري التوَسُّعي الذي يَنطلق من: تاموسيدا – بتطوان، ليكسوس – بالعرائش، فوسيبيانا – بسوق الأربعاء، بناصا – بمشرع بلقصيري، قوس تِسْرى، كسرى – بسيدي قاسم، وصولاً إلى وليلي- بمكناس. إن تلك المدينة التي تَعود إلى حوالي 100 سنة قبل الميلاد كان اسمُها فوبيسيانا / Vopisciana.
مع وصول الونْدال إلى الغرب، وهم قبائلٌ جِرْمانية ثارَتْ على حُكم روما، وسَعَتْ إلى ضَمِّ إفريقية الرومانية، أبانَتِ المنطقةُ عن مُقاوَمةٍ شَرِسة، سِيَما أثناء فترة حُكم الملك الوندالي جِنْسْريك، أو جْنْسريق بين عامَيْ 429 – 477 للميلاد، وقد عَرف هذا السهلُ حركةً دَؤُوبَةً نَتجتْ عنها لاحقاً رحلات كُبرى لأمازيغ الغرب نحو الجبل والريف.
تَقع هذه المدينةُ الرومانيةُ الاستراتيجية على طَرَفَيْ خَطِّ السِّكة الحديدية المُحَاذي لضريح المُجاهد عيسى بن الحسن المصباحي، وقد أُجْرِيَتْ حَفريات أركيولوجية مُتَخَصِّصة حول هذا الموقع، كانت الأولى سنة 1932، والأخيرة سنة 1961 حيث تم العثورُ على آثار نُقِلَ بعضُها إلى المُتحف الوطني في باريس.
أما في المرحلة الإسلامية، فإن منطقة أزغار، قد شَهدت مَوجات نُزوحِ قبائل بني هلال وبني سليم وبني عقيل إلى هذه المنطقة الخِصبة والاستراتيجية من المغرب. من صُلب تَيْنِكَ القَبِيلَتَيْن، خرجتْ قَبيلَتان اثْنَتان هما: سُفيان وبنو مالك، وعنهُما تَفَرَّعَتْ فَخضات وبُطونٌ مختلفة، هي التي تُشكل إلى الآن الفُسَيفساءَ الديموغرافية للمنطقة. نظراً لشَوْكَةِ هاتَيْن القَبيلَتَيْن وما تَفرَّع عنهُما، فإن سَلاطين الدولة المغربية قد ظَلُّوا على علاقاتٍ وطيدة مع المنطقة، تَجلَّت في تبادُل الهدايا والمُصاهَرات، ورسائل البيعة، وظَهائر تَعيين خُلفاء السلطان في المنطقة، التي تَحوَّلت إلى اسم البرُوزيِّين، مع استقرار الحاكم ” البروزي” ، ثم أُشيرَ إليها باسم بلاد الفَحص وبلاد اطْليق، وقد كانت تَمتدُّ حتى احد كورت وباب الريح.
وبحسب البُحوث الأثَرية اللاحقة، فقد تَمَّ العثورُ على العُمْلات النقدية الإسلامية التي تَعُودُ إلى سنة 1223، موجودة بمنطقة الدعادع، وبملعب التِّنس سابقاً قُربَ محطة القطار. ولا شكَّ أن الأثَر الإسلامي بالمنطقة يعود إلى ما هو أقدمُ من ذلك، لأن الأدارِسة قد شَيَّدوا مدينةَ البَصْرة / الحَمراء، في اتجاهِ مركز سيدي عمر الحاضي، بحيثُ شكَّلتْ سوقُ الأربعاء مَعْبَرًا رئيسيا لمُلوك الدولة المُؤسِّسة منذ أواخر القرن الثامن ميلادي، وبالضبط أثناء حُكم مولاي إدريس الثاني.
عندما ظهـر المُؤسِّـسُ
لقد شَكَّل نُزولُ المُجاهد والمُرَبّي عيسى بن الحسن المصباحي بمنطقةِ الدعداعة بداية القرن السادس عشر، نقطةَ تحوُّلٍ في تاريخ المدينة إلى الآن. لقد أحدث هذا المُرَبِّي، زاويتَه ليس مُكْتَفِياً بالعلم، وإنما بالعَمل، بحيث كان تلاميذُه وطلبةُ العلم قاعدةً بشرية جهادية لَعِبَتْ بقيادَتِه الحصيفة أدواراً دِفاعية باسِلة على السواحل المغربية، حتى إنه قد لَقِيَ حَتْفَه شهيداً في معركة أولاد امْرَح بضواحي مدينة طنجة، وكانت وَصِيَّتُه أن يُدفَن بزاويتِه أعلى رَبوة الدعداعة، فدُفِن يومَ أربعاءٍ من شهر شوال سنةَ 1574، حيثُ مَرْقَدُه المُهْتَرِئُ المُدْقِعُ من أثر الإهمال والنسيان. منذ ذلك الحين، صار الأتباعُ والمُريدُون والمُناصِرون يُحْيُون زيارةَ مقامِه كلَّ يومِ أربعاءٍ نظراً لقداسة مفهوم الجهاد في الوجدان الجمعي خصوصًا في تلك الحِقْبة، فظهر اسمُ أربعاء سيدي عيسى، ليَطغى على الأسماء السابقة للمنطقة، ثم تَراوح الاسمُ لاحِقًا بين: سيدي عيسى، على غِرار أسماء مُدن الغرب. لكن تسمية سوق أربعاء الغرب قد شاعَتْ، بسبب تَطوُّر يومِ الزيارة إلى فضاءٍ لتبادُلِ ومُقايَضة البضائع، ليتَشكّل السوقُ الأسبوعي بصيغَتِه الأولى في منطقة الدعادع حيث مقامُ شهيد الأربعاء، قبل أن ينتقل السوقُ إلى حي أولاد حمّاد، ثم يَستقرَّ في موضعِه الحالي. ومع دخول إدارة الحماية الفرنسية، ثم اعتمادُ الاسم بشكل رسمي.
لقد تَرك هذا المجاهدُ بِنيةً بشرية جهادية صَلبة، هي التي كان لها شرفُ المُشارَكة القوية في معركة وادي المخازن أربع سنوات تقريبا بعد استشهاد عيسى بن الحسن، وبقيادةٍ رسمية من الفارس الغـربـاوي إبراهيم السفياني تحت إمْرة الملك عبد الملك السعدي وأخيه أحمد المنصور الذهبي.
حاصـلُ الكـلام
أَلَنْ يكون إنصافاً وإكراماً أن نُعيدَ للمدينة ذاكِرَتَها الضائعة، ونُرْجِعَ إليها رُوحَها: مدينـة سيـدي عيسـى، وإن لم نَرْضَ بمُدن الغرب المجاوِرةً مِثالاً: سيدي قاسم، سيدي يحيى، سيدي سليمان، فلتكُن كلُّ مُدن الغرب الأوروبي شَفِيعَةً للرجلُ الذي بَذَلَ عُمرَه لِصَدِّ عُدْوانِها دِفاعاً عن الوطن، فلتكُن كلُّ مُدُن الصُّلَحاء الكثيرة المُبْتَدِئة بكلمة: القدّيس / Saint، شفيعةً لرمزِ المدينة الأول: سيـدي عيسـى.
مقال مفيد جداً
يا ريت عقلاء المدينة وكل من شرب من الدعادع أن يتمعن في هذه المعطيات التاريخية ويستنبط من أمجاد هذا المجاهد سيدي عيسى وتحركه نخوته الإنتمائية للرفع من مستوى هذه المدينة، وإخراجها من هذا المستنقع البئيس التي تعيشه.
شكرا لك سي أسامة على غيرتك ووفائك لمنطقتك، ولهذا التاريخ الذي يجهله الكثير