المصطفى كليتي
المعرفة في أساسها سلسلة تتعاقب عبرتدفق نهر الزمن ، وهي مجهود إنساني يتارجح بطبيعته بين الصواب والخطـأ في سيروة متواترة ، والحفر في تربة التراث يحتاج لأكثر من آلية لمقاربته ، وقد اجتهد الباحثون والنقاد في إلقاء دلوهم في بئر المدارك العميق قصد الغوص وجلاء الحجب والستار عما يجهلون ، فتعددت المناهج واختلفت وتباينت طرقا قددا ، بيد أن عبد الفتاح كيليطو أدلى بدلوه في بئر المعرفة المقصود بطريقة مائزة تجمع بين الإنصات للموروث من النصوص وسبر أغواره بتلمس مناهج حديثة دون إسقاط أو تخلي عما هو كلاسيكي سائد مكرس ، منتهجا منهجا مربكا حيث لا منهج !
فالأساس هو استغوار النص كحفرية والعمل على دراسته ليس نقدا فحسب بل بالتحاور معه واستنطاقة ، وتظل كقارىء مهتم لمنجزعبد الفتاح كيليطو هل أنت أمام خطاب نقدي صرف أم أمام نص إبداعي ملتبس ، يقع بين منزلتين : الغاية النقدية والغاية الإبداعية، ويظل ما يخطه كيليطو مستفزا للمتلقي ويقحمه في التفكير والتأويل ، فالعودة إلى تقليب صفحات التراث العربي في منجز الناقد / المبدع يجمع بين خاصية التأمل والتفسير والتأويل من جهة وبخاصية إعادة تدويره وإنتاجه وفق منظور خاص يتبناه الناقد المتفحص لكي يشرك المتلقي ويورطه بين تلافيفه وأسئلته المشرعة نحو آفاق بعيدة ومتعددة.
ينجم عن ذلك خلق قلق معرفي يدعو القارىء للتوغل في المضان ، وكلما جرع جرعة تحرق وازداد عطشا، وهذا سر الناقد عبد الفتاح كليطو ، فهو لا يقدم وجبة نقدية شهية سريعة وسهلة الإستهلاك ، بل يتغيا إقحام المتلقي إن لم نقل تعذيبه في متاهات تجمع بين البين الواضح تارة والغامض تارة أخرى ، كتابة تنتج معنى في نفس الكاتب ومعاني مضافة عند صاحب كل فضول معرفي، فكتابات كيليطو تتحقق ويحسن تمثلها من له رصيد وخبرة في الأدب والتراث العربي والإسلامي عامة ، وغير موجهة لعامة القراء ، لأن قراءة كليطو تتطلب عدة وجاهزية ومعرفة قبلية بالأدب وشتى تلاوينه .
فكيف أتى ناقدنا ليجول بنا في حدائق التراث السردي ، وكيف نجذب إليه وشغف ، وكتاباته برغم ما تتسم به من غموض ، لكنها تقدح الفضول وتحث على التقصي والجري وراء قطف ثمار شجرة المعرفة ، التي لا تقدم نفسها بيسر وإنما بكد وتعب ونصب .
ومن المفارقات ، إن يفتح الطفل عبد الفتاح الشغوف بالقراءة عينيه في بيت المدينة العتيقة بالرباط ، تضج فيه مكتبة العائلة ، بكتب دينية وتفاسير ومجلدات الفقه غير أنه لم يمد لها يدا، تعلم أول الأمر في الكتاب ثم إلى المدرسة العمومية في الإبتدائي ومن ثمة إلى ثانوية مولاي يوسف بالرباط ، وبعد ذلك انتقل إلى جامعة محمد الخامس ، ولعل أول من شده إلى الأدب العربي كتابات مصطفى لطفي المنفلوطي ، أو بالأحرى ترجمات المنفلوطي ، فلم يكن ـ هذا الآخيرـ حاذقا للغات فرنسية أو إنجليزية، كان يتقن اللغة العربية فقط، ويسمع إلى مضامين الروايات التي يرويها له أصدقاؤه ، فيضيف إليها من عنديات خياله الخصب ، مجملا ذلك بــبــهرات من سحر البيان ، فشد اهتمام أجيال بروايات شديدة الأثر بنكهتها الرومانسية الزائدة ، كرواية ” الشاعر ” و ” الفضيلة ” و ” وما جدولين ” وما إلى ذلك ، وكان عبد الفتاح من المعجبين في صغره بكتابات المنفلوطي ، دأب ناقدنا خلال الفتوة على القراءة بعجلة وتذوق وتركيز زمنا غير يسير ، وخلال المرحلة الجامعية كانت وجهته الشعبة الفرنسية بعدما لم يجد أفقا يجعله يتوسع في تعلم اللغة الألمانية ، وسرعان ما عاد لدراسة الأدب القديم على يد أستاذ الأساتذة أمجد الطرابلسي وجاءت سانحة اضطلاعه على أعلام الثقافة العربية كابن قتيبة والآمدي وابن رشيق،ومسارات بحثه ودراساته تأرجحت بين لغتين اللغة العربية واللغة لفرنسية فمن بحث عن ” المقامات ” إلى دراسة “عن ” الشاعر الفرنسي مالارمي ” وقد أطر المفكر محمد أركون رسالته في السربون ، حول موضوع ” السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمداني والحريري “.
وقد يستعصي القبض على الثالوث الذي يشتغل عليه الناقد الباحث عادة : تحديد الأفق النظري والمنهج المرسوم كخارطة طريق و المفاهيم المؤطرة للعمل ، فكليطو لايفصح عن منهجية أو نظرية محددة ، وانما يفتح شبكة واسعة كأي صياد ماهر ، راسما استراتيجيته الخاصة المربكة .
المثير هو سؤال القراءة عند كيليطو من خلال ما ينتج ويصدر وهو المبدع الناقد المحلل بوصلته القراءة ولاشيء غير القراءة وما يصاحبها من تأمل وتأويل وكل ذلك يرتبط بالحكي الموروث ، مصدر إلهامه وشطحات خياله ، ومن ذلك ما جاء على ظهر صفحة كتابه” والله إن هذه الحكاية حكايتي ( التوكيد يرد بقوة في العنوان ) مستلهما ألف ليلة وليلة ” في الليلة الواحدة بعد الألف قررت شهرزاد ، وبدافع لم يدرك كنهه ، أن تحكي قصة شهريار.. ما يثير الإستغراب على الخصوص أنه أصغى إلى الحكاية ، وكأنها تتعلق بشخص آخر ، إلى أن أشرفت على النهاية ، وإذ به ينتبه فجأة إلى أنها قصته هو بالذات ، فصرخ : ” والله ، هذه الحكاية حكايتي ، وهذه القصة قصتي “
الغرابة بارزة في أدب كيليطو ، فحتى المألوف لما نمعن النظر والتدقيق في تفاصيله يبدو في منتهى الغرابة، انطلاقا من باكورة أعماله ” الأدب والغرابة ” وتتلاحق أعماله بعد ذلك ” الكتابة والتناسخ ” ،” الحكاية والتأويل دراسة في السرد العربي ” ” العين والإبرة ” ، مسار ” ، ” من غرفة ابن رشد ” ، ” تجربة الجاحظ ،” بحبر خفي ” ،” من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا ” ، ” لسان آدم ” ،” أبو العلاءالمعري ومتاهات القول ” ،” لن تتكلم لغتي ” ،” حصان نتشه ” ،” الحكاية والتأويل المقامات ” ، ” الأدب والإرتياب ” ، ” في جو من الندم الفكري ” ، ” أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية “
النص التراثي ثر بخلفيات فكرية وجمالية ويتوجب تأطيره في سياقاته الزمكانية ،
فقد عمد عبد الفتاح كليطو وهو الأديب / الناقد ، يعتبر نفسه مجرد قارىء ، ولعل ذلك من تواضعه الجم ،يقدم ماهو مدهش ومثير للمتلقي بتسليط مزيد من الأضواءعلى المنجز الإبداعي والنقدي ، بطريقته ومهارته في التفكيك وإعادة البناء ، رغم ما يعتورها من متاهات الحيرة والغموض ، فلاشيء يكتمل في هذه الحياة فلنقص جمالياته ..
لاتدعي هذه المقالة العجلى الإحاطة بمنجز عبد الفتاح كيليطو الثر وشديد الغنى والتنوع وحسبي أن تكون مجرد إشارات ، فناقدنا مفكر وفيلسوف وأديب من العيار الثقيل يحتاج لقراءات متأنية تستغور عوالمه العجية والرحيبــــــة …