مَقَامُ الجِمَارِ: رَمْيُ الظِّلَالِ فِي وَادِي الأَنْوَارِ

خاطرة بقلم ذ.عبد السلام القيسي

من مبنى شامخ ذي خمسة طوابق، يحتضنه السكون ويعلوه الجلال، تتوسطه خمسة عُمُدٍ من حجر الصبر، تَحُفُّ بها ثلاثة أحواض، هي مواطن الغلبة والنصر، حيث ظهر الشيطان الرجيم، فرماه خليل الرحمن، سيدنا إبراهيم عليه السلام، سَبْعًا سَبْعًا، حتى اندحر خاسئا مطرودا.
هناك، يفيض أحباب الله من مشعر منى، قلوبهم واجفة وعيونهم دامعة، يَتَأَسَّوْنَ بسيد المرسلين، محمد عليه أزكى الصلاة والتسليم، فيسلكون درب الرمي، في شارع يحمل الرقم 204، يمضون فيه مسافة 1.6 كيلومترا، عابرين عند سفح جبل مِنَى الجنوبي، حيث الجمرة الصغرى، هناك حيث يتفيأ الزائرون ظل مسجد الخَيْف، ذاك المسجد المبارك، الذي صلى فيه سبعون نبيا كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه.
ثم يمضي الحجيج نحو مئتي متر في حضرة الذكر والمهابة، حتى يقفوا عند الجمرة الوسطى، ثم يتابعون السير الروحي نحو جمرة العقبة الكبرى، بعد 247 مترا، حيث ينتهي حد مِنَى من جهة مكة.
هناك، على يسار الصاعد المتجرد من دنياه إلى مولاه، يرقد مسجد البَيْعَة، حيث التقى المصطفى صلى الله عليه وسلم بالأنصار، وبايعوه بحضرة عمه العباس، بيعة من نور، وثبات من عهد.
وقد ذكر أهل القلوب من العلماء وأرباب البصيرة أن في رمي الجمرات إِذْلَالًا للشيطان، وإهانة لعدوه الأزلي، ومخالفة لجنده، وقد كان إبليس قد اعترض سبيل الخليل إبراهيم عليه السلام ثلاث مرات، ليصرفه عن الذبح الأعظم، فكان الجواب حصاة بعد أخرى، في مواضع معلومة، غدت اليوم مشاعر تهفو لها الأرواح وتنجذب لها القلوب.
إن الله جل جلاله، شرع لعباده المؤمنين رمي الجِمَارِ في موسم الحج، تَأَسِّيًا بنبيهم المصطفى، فقد رمى عليه الصلاة والسلام جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، يكبر مع كل واحدة تكبيرا، ثم رمى في الأيام الثلاثة التي تلت – الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر – بعد الزوال، كل جمرة بسبع، حتى اكتمل العدد سبعين حصاة، لمن أتم مناسكه ولم يستعجل.
هناك، حيث تقف، تَجْتَاحُكَ نفحات من عوالم الغيب، فيفيض القلب خضوعا، وتنهمر المدامع من غير إذن، ويجذبك مغناطيس الروح، فيوقظك من سُبَاتِ الغفلة، ويقشعر له جلدك، وأنت تتبتل في الدعاء، وتبسط كفك للرحيم الرحمن، تسأله القبول، وأن يجعلك من التوابين، ومن المتطهرين، وأن يُزَكِّي نفسك بما هو خير لها، فيقودك إلى التقوى، ويُلْحِقُكَ بالصالحين.
هناك، عند تلك الشعائر الراسخة، حيث تعتصر الأرض ذنوب العابرين، وتتنزل الرحمات مدرارا، يشهد القلب مقام الفتح، وتلوح على الجبين أنوار القبول،
هناك، حيث تتوارى ظلال النفس، وتتكشف الحجب، يولد العبد من جديد، كأنما خُلِقَ الآن، روحا تائهة وَجَدَتْ سُكْنَى الوصول.
يا سالك درب منى، يا واقفا عند الجمار ترجو غفرانا وتوبة، اعلم أن ما ترميه ليس حجرا، بل ترمي الشيطان الذي فيك، ترمي وساوسك، وغفلتك، وعلائقك، ترمي نفسك الأمارة بالسوء، لترتقي إلى مقام النفس المطمئنة، الراضية المرضية.
فهنيئا لك هذا المقام، وهنيئا لك هذا المشهد الجليل، وها هي الأرواح العاشقة تهمس:
اللهم حَجَّةً لَا رِيَّاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَة.

مشعر منى، الشارع رقم 204، مخيم رقم 37، الخيمة رقم 28 رجال، الأحد 12 ذو الحجة 1446.