بقلم: *المصطفى كليتي*
لا مراء بأن جميع الأشكال الفنية والتعبيرية رقي وسمو ، وتسعى عبر ركوب أجنحة الخيال ، لخلق متعة تنعش الروح والنفس ، تشد المرء بأكثر من وشيجة إلى الحياة ، بيد أن الممارسة الفنية تتطلب حسا يرقى بالذوق وثقافة تنصهر في أسئلة الماضي وتساير الواقع وتتطلع للمستقبل ، إن كان هذا الفن يرسو على أرضية صلبة ، كلما كانت مناخات صحية ومسعفة بأمصال الأنشطة الفكرية والجمالية وبأنساغ مرجعية تقوي وتخصب التراث الإنساني وتسبر أغواره ، حتى يتصادى مع لغات الفن وتذكي وتبلور جلال حضوره .
أما إذا كانت الخلفيات والتطلعات على النقيض من ذلك ، فتمسي الدعائم الفنية مجرد أدوات تقويض وتخريب ، مما يضر بسلامة الفن ويصيبها في مقتل ، ذلك ماحدث في العاصمة وهي تعيش حفلات الرباط عاصمة الثقافة الإفريقية ، التي احتضنتها إحدى الساحات الكبرى ضمت الآلاف من الشغوفين ، انبرى صوت مغني الراب ” طوطو ” ب” كلاشات ” وهي في قاموس الراب هجو كلام يوجه للخصوم والأعداء قصد اللمز والسب والشتم بقارص ووسخ الكلام ما أشببه بمياه قنوات الصرف الصحي ، بل إن المدعو ” طوطو ” فقد الزمام ولم يتلفظ إلا بما تحت الحزام من ساقط وفاحش القول ، ولم يحفل لا بهيبة المنصة ولا بجمهور متتبع معظمهم من مراهقين ومراهقات ويافعين ويافعات ، ومما يزيد الأمر بلة ، الحفل منقول على الهواء وأكثر من شاشة وقناة تعرض الحفل على المباشر ، ناهيك على أن الحفل الحاشد ترعاه وزارة مكلفة بالثقافة والشباب ـ مع الأسف الشديد ـ والمال المصرف من خزينة الدولة أي من عرق المواطنين الغلابة ، أي إسفاف وسقوط وانحدار والمدعو ” طوطو ” يزهو ويفتخر بتعاطي المحرمات والمخدرات ، أية مهزلة تخلفها هذه المهرجانات ؟ أحداث غير مسبوقة شهدتها سهرات ” البولفار ” سواء في الرباط أو البيضاء ، وماشابها من تحرش وسرقة وفوضى عارمة ، إساءة كبرى للمشهد الفني بالمغرب ، وتلوث سمعي وخدش بين وفاحش للحياء ، وانعكاسات كل ذلك على النشء الذين يتأثرون بهولاء ” النجوم الساقطة ” من علياء الفن إلى حضيض السفالة والفجاجة ، هل هذه هي رسالة فن هذا المغني ، فهناك عينات من الفنانين الشباب يغنون بأساليب وطرايق “الراب “بشكل مستساغ ومستحب فمن كان وراء اختيار هذا النموذج المبتذل والرديء ، الفن ليس انحطاطا وقلة حياء وعدم مراعاة للأصول والتربية الحقة على حد قول الشاعر أحمد شوقي:
“إنما الأمم الأخلاق مابقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”
فهذا المطرب ” الغراندي طوطو ” ، يحرض الشباب على التعاطي للمخدرات أمام الملإ والرأي العام ، ويواجه الجمهور المتتبع بكلام نبي ، وإيحاءات غير أخلاقية تشي بالسفالة والإنحراف ، ومن المؤكد إن ضغيان التفاهة أضحى دارجا ، فالمفكر الكندي ” آلان دونو ” كتب كتابا بالغ الأهمية ” نظام التفاهة “خصصه لمثل هذه الظواهر الغارقة في السلبية والتي أضحت سائدة في كل مجال وميدان ، فالنمو الإقتصادي والإجتماعي وكل أشكال الرفعة والتطور، لا يتأتى إلا عبرالثقافة والفنون والتربية والتعليم ، أما كل أساليب التنميط والعولبة تبقى بؤسا حضاريا وصفر فراغ يوضع على الشمال !
إشاعة الصفاقة والتفاهة ، ليس بالأمر العفوي وإنما ضرب ـ مبيت ـ ضد الأصالة والهوية وعمق ” تمغربيت ” والسعي لصياغة جيل فارغ المحتوى يعيش خلوا دون شاغل قضية ولا يصرف بالا واهتماما لشجون وطنه ، متحررا من كل رابط أو إلتزام ، هل الحداثة والحرية الفردية هي السب والقذف والتلفظ بما لا تطيقه الأسماع ؟
كيف تم هذا التحول والإنتقال من أغاني وأناشيد قومية حماسية، إلى أغاني رومانسية عاطفية زمن أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد وعبد الحليم في الأغنية المشرقية إلى الحسين السلاوي ومحمد فويتح وعبد الهادي بالخياط وعبد الوهاب الدكالي وصولا إن زمن ناس الغيوان وجيل جيلالة والمشهب في الأغاني المغربية .
هل يا ترى أدركنا زمن سفالة وتفاهة ” طوطو “؟
هل نملك تصورا حقيقيا ، لكي يصلح الحقل الثقافي والفني ببلادنا !
وأخشى ما يخشى هو تعميم ظاهرة وثقافة “طوطو ” مادامت مسنودة من الوزارة الوصية على قطاع الثقافة “.
وحتى في القنوات الرسمية للدولة تدرج سهرات مكرورة مملة ، لمطربين شعبين ما أقرب مايرددون من أغاني بأغاني العلب الليلة وأهازيج الأعراس !
الحدث ليس عابرا أو متجازا ، وإنما يجب أن تكون وقفة راصدة لكل ما وقع .
لاريب في أثر الموسيقى على الأفراد والجماعات ، وقد برهنت الكثير من الدراسات على دورها الإيجابي والفعال على الصحة النفسية للإنسان ، عندما يتعلق الأمر بموسيقى تتميز بصبيب رفيع من الإبداع ، أما ـ زمنئذ ـ ففقدنا بهاء الموسيقى وظهرت موسيقى طابعها الصخب والزعيق والغضب المستطير تتحكم فيها العبثية والإرتجال ، فالموسيقى العالمة المبنية على القواعد الإيقاعية المرعية ، لها دور كبير في تهذيب الذوق والحواس بدل الموسقى العشوائية التي تلوث الأسماع لما فيها من غثاثة ونشاز ، وعن الموسيقى الراعة يقول الكاتب الفرنسي أندريه موروا ” أيتها الموسيقى إن في أنغامك الساحرة ما يجعل جميع لغتنا عاجزة قاصرة “.