الروائح الكريهة في القنيطرة..هذه أبرز المصادر المحتملة

المساء 24 _ برعلا زكريا

لا حديث في مدينة القنيطرة هذه الأيام يعلو على موجة السخط العارم والشكايات المتصاعدة جراء انتشار روائح كريهة وقوية، باتت تزكم الأنوف وتثير استياء واسعا، وسط تساؤلات ملحة حول مصدرها الغامض وتداعياتها الصحية المحتملة على آلاف السكان.

وللإحاطة بجوانب هذه الأزمة المقلقة، يستند هذا البحث في مقاربته إلى منهجية علمية ومصادر بيانات مفتوحة ومحينة وموثوقة. وقد شمل ذلك الاستعانة ببيانات آنية وتوقعات لمستويات الملوثات من طائفة من منصات المراقبة الفورية لجودة الهواء، من بينها “AccuWeather”، و “Air-Quality.com”، و “Wunderground”، بالإضافة إلى منصة “OpenAQ”. كما تم الاعتماد على دراسات وتقارير أكاديمية منشورة في قواعد علمية مثل “ResearchGate” و “MDPI”، وبيانات الاستشعار عن بعد عبر القمر الصناعي “Copernicus Sentinel-5P”، فضلا عن التقارير الرسمية وتقارير الشركات المعنية بالأنشطة الصناعية وإدارة النفايات. وتكفل هذه المصادر المتاحة والموثوقة تقديم صورة شاملة قدر الإمكان عن واقع جودة الهواء في المدينة.

وفي صلب هذه الأزمة، تبرز الرائحة القوية التي يعاني منها سكان القنيطرة، خاصة في قلب المدينة وعلى مقربة من نهر سبو، حيث تبقى الفرضية الأبرز متعلقة بتصريف ما يعرف ب “الحماة السامة” من المصانع مباشرة في مياه النهر. وتشير “الحماة” في هذا السياق إلى رواسب ومخلفات شبه صلبة، كثيفة القوام، تنتج كنفايات ثانوية عن العمليات الصناعية المختلفة أو مراحل معالجة المياه العادمة. وتكمن “سميتها” في احتوائها المحتمل على تركيزات عالية من الملوثات الخطرة، مثل المعادن الثقيلة (كالرصاص والزئبق والكادميوم والكروم)، والمركبات الكيميائية العضوية المستدامة (كمبيدات الآفات والمذيبات الصناعية والفينولات)، فضلا عن مواد كيميائية أخرى ناتجة عن طبيعة الإنتاج الصناعي. ويشكل إلقاء هذه الحماة دون معالجة كافية في النهر تهديدا مباشرا للنظام البيئي المائي، حيث تترسب هذه المواد السامة في قاع النهر، وتلوث المياه، وتؤذي الكائنات الحية، وقد تنتقل عبر السلسلة الغذائية، فضلا عن إمكانية تطاير بعض مركباتها مسببة تلوثا للهواء وروائح كريهة.

ولا يتوقف الأمر عند هذا المصدر المحتمل، إذ توجه أصابع الاتهام من قبل السكان وبعض المراقبين أيضا نحو “بعض المصانع” التي يشتبه في أنها تطلق هذه الروائح بالإضافة إلى “كميات هائلة من الدخان الأسود”. ويضاف إلى قائمة المصادر المحتملة “مرفق معالجة مياه الصرف الصحي” الذي قد تسهم بعض عملياته في هذه الانبعاثات المزعجة.

وتعد المحطة الحرارية في القنيطرة، التي تعتمد على حرق الوقود الأحفوري وبخاصة الفحم، مصدرا رئيسيا آخر للتلوث، حيث تطلق مداخنها دخانا أسود كثيفا أثار شكاوى السكان منذ عام 2010 بسبب “الغبار الأسود، ومشاكل الجهاز التنفسي، وتدهور جودة الهواء”.

وتزداد قائمة المصادر المحتملة اتساعا لتشمل مكب النفايات ضواحي المدينة، والذي قد يفتقر إلى المعايير البيئية السليمة في الإدارة والتشغيل، ليتحول إلى بؤرة لانبعاث الغازات السامة والروائح الكريهة التي يحملها الهواء إلى قلب التجمعات السكنية. ويزيد من تفاقم هذا الوضع البيئي النمو الديموغرافي المتسارع الذي تشهده القنيطرة، وما يرافقه من توسع عمراني يلتهم المجال الأخضر ويخلف أطنانا من مخلفات البناء والترميم، فضلا عن الضغط المتزايد على البنى التحتية والارتفاع المتزايد في أعداد المركبات التي تجوب الشوارع والتي تساهم بشكل كبير في انبعاث الجسيمات الدقيقة وأكاسيد النيتروجين.

إن هذه الروائح والانبعاثات، بمصادرها المتعددة، لا تشكل مجرد إزعاج عابر، بل هي مؤشر مقلق على وجود مزيج معقد من الملوثات الهوائية، تشمل الجسيمات الدقيقة (PM2.5 و PM10)، وثاني أكسيد النيتروجين (NO2)، والكربون الأسود (BC)، ومركبات عضوية متطايرة، وربما معادن ثقيلة، والتي يحتمل أن تكون لها تداعيات صحية وخيمة.

وفيما يتعلق بتأثيرات هذا الوضع البيئي المقلق، فإن البيانات الحديثة، وإن لم تكن مكتملة دائما، تكشف عن تقلبات في جودة هواء القنيطرة، فبينما قد تتراوح بين “معتدلة” في بعض الأوقات، فإنها كثيرا ما تصل إلى مستويات “غير صحية للفئات الحساسة” أو “غير صحية” بشكل عام في أحيان أخرى. ويعني هذا أن التعرض المستمر لتلوث الهواء يرتبط بزيادة مخاطر الإصابة بمشاكل الجهاز التنفسي، كالسعال وضيق التنفس وتفاقم حالات الربو، فضلا عن أمراض الجهاز التنفسي المزمنة.

ويدفع الأطفال الثمن الأكبر، إذ غالبا ما يكونون الأكثر عرضة للمخاطر الصحية الناجمة عن تلوث الهواء، حيث تربط الدراسات بين أعراض الشعب الهوائية وانخفاض وظائف الرئة لديهم ومستويات تلوث الهواء. يضاف إلى ذلك تأثير ملوثات أخرى كالأوزون الأرضي (O3) وأول أكسيد الكربون (CO) وثاني أكسيد الكبريت (SO2) التي قد تكون حاضرة وتسهم بدورها في تهييج الجهاز التنفسي وتفاقم الحالات المرضية.

وتترجم هذه المعطيات إلى واقع ملموس، حيث تشهد عيادات أطباء الأطفال والمتخصصين في أمراض الحساسية التنفسية اكتظاظا ملحوظا، مما يعكس حجم المعاناة التي يعيشها أطفال القنيطرة. ويواجه الآباء تحديات جمة في التعامل مع الحساسية المتزايدة وأمراض الجهاز التنفسي التي تظهر على أبنائهم، في ظل غياب حلول جذرية تنهي هذا الكابوس المتواصل. وتعد الجسيمات الدقيقة، وتحديدا PM2.5، من أخطر الملوثات، لقدرتها على التوغل عميقا في الرئتين ومجرى الدم، مسببة مشاكل صحية جسيمة تؤثر على الرئتين والقلب على المدى الطويل.

وعلى الرغم من الانخراط القانوني للحكومة المغربية في اتفاقيات دولية ومحلية تهدف إلى الحفاظ على البيئة وجودة الهواء، وتطوير ترسانة تشريعية تشمل المرسوم رقم 2.09.631 ولوائح جديدة متعلقة بالانبعاثات الصناعية، بالإضافة إلى استراتيجية التنمية المستدامة (SNDD 2030)، إلا أن الواقع على الأرض يرسم صورة مغايرة، ويكشف عن فجوة واضحة في التنزيل والتطبيق الفعلي لهذه القوانين والالتزامات. فما زالت التحديات في التطبيق والرقابة قائمة، مما يستدعي تعزيزا للجهود الحكومية والمجتمعية لضمان هواء أنقى وحياة صحية لسكان القنيطرة، التي تستحق أن يتنفس أهلها هواء نقيا، وأن ينعم أطفالها بصحة جيدة بعيدا عن شبح الأمراض التنفسية والروائح المزعجة.