*ذ.عبد الرزاق الجباري*
يشهد التاريخ، بما سجله في سجلاته التي لا تنمحي، أن جمعية هيآت المحامين بالمغرب، كانت، منذ تأسيسها، في صدارة المدافعين عن الكثير من قضايا الوطن، خصوصا السياسية منها والاجتماعية.
وإذا كان هذا ثابتا لا مراء فيه، فإن الناظر في أدبيات الجمعية المذكورة، سيجد أن مناط اختياراتها النضالية لم تكن سوى تشبثها بجملة من المبادئ التي تدور مع مواقفها وجودا وعدما، والدفاع عن تكريسها وحمايتها؛ بدء من مطالباتها المتكررة بضمان المحاكمة العادلة ومساواة الجميع أمام القانون والقضاء، مرورا بالدفاع عن مبدإ الأصل في المتهم البراءة وما يترتب عنه من قاعدة تفسير الشك لفائدته، وانتهاء بتشبثها الصميم بمبدإ استقلالية القضاء وعدم التأثير على مقرراته.
ولما كان مبدأ استقلالية القضاء هو الجامع لكل تلك المبادئ والمُستبد بها، فإن منظور الجمعية المذكورة له كان يتمحور على أمرين اثنين:
أولهما: كونه هو بمثابة القطب الذي يجوب حوله بنيان الدولة الحديثة، فلا ديمقراطية ولا تقدم ولا ازدهار ولا تنمية بدون قضاء مستقل.
ثانيهما: أن استقلال القضاء هو المدخل الأساس لقوة القضاء نفسه، وبما أن المحامي هو جزء أصيل من أسرة القضاء، فلا شك أن قوة مهنة المحاماة من قوة سلطة هذا الأخير، وأن القضاء المستقل، هو الضمانة الوحيدة التي لا محيد عنها لممارسة مهنة المحاماة بما يليق بها كرسالة سامية نبيلة، خصوصا في علاقتها بمؤسسات أخرى.
وإيمانا منها بهذين الأمرين، لم تكن جمعية هيآت المحامين بالمغرب لتتردد في الدفاع عن مبدأ استقلال القضاء ونيل ما يستحقه من قوة ومناعة كلما تم الافتئات والتأثير على سلطته، أو مجرد محاولة ذلك، سواء على مستوى الدستور أو القانون أو الواقع.
ونزولا عند هذه المعطيات التاريخية، فإن من يحاول تصوير نضالات الجمعية المذكورة دفاعا عن استقلالية القضاء، باعتبارها كانت دفاعا عن القضاة كأفراد، مستغلا ذلك في خدمة “أجنداته” التموقعية، فهو، وبلا شك، قد أساء إلى التاريخ المشرف للجمعية أولا، وإلى كفاح مؤسسيها ومسيريها من فطاحل النقباء على مر مسارها الطويل ثانيا.
ورب متسائل يستفسر عن: دور القضاة في الدفاع عن استقلاليتهم في ظل هذا المشهد ؟ للجواب عن هذا التساؤل، وجب التمييز بين مرحلتين:
أولاهما: وهي المرحلة ما قبل دستور 2011، حيث كان الدستور القديم والقانون يمنع على القضاة التعبير العلني عن مواقفهم ولو كانت مهنية، كما كان يمنع عليهم التكتل في تنظيمات مهنية تدافع عن استقلاليتهم وحقوقهم ومصالحهم المشروعة، ومن شأن القيام بذلك أن يسلط عليهم سيف التأديب.
وهذه المرحلة بالذات، هي التي انبرت فيها جمعية هيآت المحامين بالمغرب للدفاع عن استقلالية القضاء، في الوقت الذي لم يكن القضاء ليعدم رجالات وقامات بصموا تاريخه بقرارات غير مهادنة لأي جهة من الجهات، وبممارسات عملية تدافع عن استقلاليتهم فعلا لا قولا فحسب. والتاريخ خير شاهد على ذلك، وما أخبار تأسيس رابطة القضاة في ستينات القرن الماضي، وظروف تأسيس الجمعية المغربية للدفاع عن استقلالية القضاء بداية الألفية الثالثة ببعيدة عنا، حيث قدم بعض القضاة أنفسهم قرابين لاستقلالية القضاء بلا أدنى منٍّ أو تفضُّلٍ.
ثانيتهما: وهي مرحلة ما بعد دستور 2011، حيث أقر الدستور حق القضاة في التعبير وفي تأسيس جمعيات وتكتلات مهنية. وقد اضطلعت، في هذه المرحلة، جمعية “نادي قضاة المغرب” بالدفاع الحقيقي عن استقلالية القضاء، وأدبياتها في هذا مشهودة مشهورة، في الوقت الذي تراجع فيه منسوب ذلك لدى جمعية هيآت المحامين بالمغرب، ودوننا إحجامها عن عدم إبداء أي موقف بخصوص القانونين التنظيميين المتعلقين بالسلطة القضائية عند إعدادهما، بالرغم مما كان يعتريهما من تراجعات خطيرة وانتكاسات جسيمة لضمانات استقلالية السلطة القضائية، وهو ما أثبتته الممارسة بعد صدورهما ودخولهما حيز التطبيق منذ حوالي خمس سنوات خلت، فضلا عن طريقة تعاطيها مع قضية “التسجيل الصوتي” المنسوب لبعض القضاة، والتي صاحبتها سلوكات مغلفة بشبهة محاولة التأثير في الأبحاث القضائية بخصوصها.
من هنا، كان لا بد لـ “نادي قضاة المغرب” وجمعية هيآت المحامين بالمغرب، وكل الإطارات الشبابية المنتمية لهيأة الدفاع، وفي هذه المرحلة بالضبط، أن يضعا اليد في اليد لمواجهة التحديات والصعوبات المنتصبة في وجه العدالة ببلادنا، وهي جمة وكثيرة، دونما أي التفات لمن يستهوي خلق النعرات والتشنجات بين القضاة والمحامين بأسلوب دخيل على أعرافهم وتقاليدهم وأخلاقهم التي جُبلوا عليها، والتي لن تخدم إلا من له مصلحة في إضعاف القضاء والمحاماة معا.
ولا سبيل، في اعتقادنا، لتفعيل هذا المنهج من سلوك أمرين اثنين في أفق التأسيس لعلاقة مهنية مشتركة تخدم مصلحة العدالة لا غير، وهما:
الأول: إعادة إحياء الميثاق الأخلاقي الموقع بين الطرفين، وذلك بمقتضى مذكرة التفاهم المؤرخة في 16 ماي 2014، والالتزام بتفعيله تحت أي ظرف كان، وعدم ترك “الأزمات” المعزولة والعابرة سببا لنسف كل القيم التي تجمع القضاء والمحاماة.
الثاني: إحياء الأعراف والتقاليد المهنية في سبيل تدعيم وتمتين العلاقة التي يتعين أن تسود بين هيأة الدفاع والقضاء باعتبارهما أسرة واحدة، وذلك عن طريق تنظيم ندوات وورشات مشتركة لتدعيم ذلك، تستثمر فيها تجارب كبار القضاة والنقباء.
*رئيس نادي قضاة المغرب*