عمار أبو شعيب
ذات صبيحة ربيعية من سبعينيات القرن الفارط، توقف أمام باب بيت جدي الذي كان منعزلا في أعلى نقطة من هضبة أداروش الجاثمة بين مدينتَي مكناس ومريرت وعلى مرمى حجر من الغابة، فارس سبعيني على صهوة حصان شديد السواد… كان رجلا ذو ملامح مختلفة تماما عن سحنة أهل البلدة من أمازيغ أعالي الجبال، فارع الطول، مفتول العضلات، بشعر أشقر مائل للذهبي تتخلله خصلات شديدة البياض وأخرى رمادية يتدلى إلى ما تحت كتفيه بقليل، وبشارب كثيف مفتول الجانبين على هيئة قرني ثور إسباني بالغ، وعينين واسعتين بزرقة سماء أطلسنا المتوسط الشامخ… يمشي منتصب القامة، مرفوع الهامة ممسكا بتسبيحة ضخمة وهو يمرر بإبهامه وسبابته حباتها اللٌوبانية التي بَدَت لي في حجم حبات فاكهة مشمش ذهبية يانعة، كان يمارس طقسه هذا وهو يهمهم ويتمتم بكلمات مبهمة وغامضة، ثم يصرخ بصوت عالٍ أخرى:
– طلبووووو التسليييييييم … طلبوووووو التسليييييييم…!
خِلْتُ أن قلبي سيغادر مرفرفا أضلعي إلى غير رجعة من فرط الهلع والرعب اللذَيْن داهماني وأنا أسمع هاته الزمجرة الصادرة من هذا الفارس الغريب الأطوار والزبد يتطاير من شدقيه…
تَرَجَّل عن جواده بخفة الشباب، ثم خَطا بضع خطوات واثقة وثابتة، ونادى على جدي مُرددا اسمه بلكنة أمازيغية خشنة تتخللها أخطاء تعبيرية ونحوية فادحة جعلتني أتيقن بأنه وافد من بلاد بعيدة جدا عن هاته الربوع التي يتكلم فيها كل الأهالي لغتهم الأم بمنتهى السلاسة والطلاقة… وسرعان ما جاء صوت جدي ملبيا النداء بشكل فوري عجيب:
– الله أكبر الله أكبر… الشريف سيدي ومولاي عبد الغفور حفظه الله بلحمه وشحمه في رحاب بيتنا… أهلا بسليل الشرفاء، وبالتراب الذي تطأ عليه قدماه الطاهرتان وقوائم حصانه النبيل…
استغربت من هذا الترحاب الزائد عن اللزوم الذي خصّ به جدي هذا الرجل الغريب، وهو المعروف في كل أرجاء ربوع منطقة أداروش بجديته وصرامته الزائدة عن اللزوم، وترفعه عن تملق أو مجاملة أي إنسان مهما علا شأنه وامتلأت “شكارته”…
دلفَ بسرعة البرق وطلب من ابنه البكر أن يخرج أغلى وأروع زربية لدى الأسرة، ثم فَرَشاها له في صدر البيت الوحيد الذي بُلِّطَتْ أرضيته في المنزل الطّيني العتيق… ثم وُضِعَت عليها وسادتين مزركشتين بحرير دودة القز ومزينتين بأقراص المُوزون التي تتلألأ بين الزخارف كاليواقيت والنجوم في ليللة خالية من الغيوم… وصينية نحاسية فاسية مصقولة بكل طاقمها من الصُّنَيْدِقات الفِضّيّة الصغيرة المُرَصّعة بأروع النقوش الدقيقة، والمحشوة بالنعناع والشاي والسكر، مزدانة بكؤوس البلّار وبراد اللدون المتباهي بطاقيته الحمراء الفاتنة التي تتوسطها قطعة نقدية ذهبية مثقوبة، حكت لي جدتي أنها تعود للعهد المزدهر الذي كان يحكم فيه يعقوب المنصور الذهبي حيث كانت معظم النقود المتداولة من الذهب الخالص…
ولكن مالم أفهمه طيلة سنوات عمري المنصرم، ولحد الساعة، وترك علامتي استفهام وتعجّب كبيرتين فوق هامتي الطفولية، هو: من يكون بالضبط هذا الرجل حتى يحظى بكل هاته الحفاوة من طرف جدي الذي لم يتردد في ذبح أسمن أكباشه، وشيِّه كاملا لهذا الوافد الغامض الذي اكتفى منه بتناول الكليتين وقضيبَيْ بولفاف… ثم انصرف بعدما قرأ ما تيسر من الذكر الحكيم، وتناول رزمة من النقود مقابل دعائه لنا بالتوفيق والفَلَاح، وتأكيده بالقسم بأغلظ الإيمان بأن قطيع أبقارنا وأغمامنا سيكون أحسن قطيع في الأطلس المتوسط، وأن فِلاحتنا وزراعتنا ستعطي أجود الثمار والحبوب والقطاني… وأضاف وكله يقين بأننا سندخل جنة النعيم من أوسع أبوابها دون حساب أو عقاب على حسابه طبعا وتحت ضمانته، باعتباره سليل الشرفاء الأتقياء والأولياء الصالحين وثُلّة المبشَّرين بالجنة… شريطة أن نستمر في توفير المبلغ والأنعام والمحاصيل إياها كل سنة للزاوية المباركة المعلومة، التي لا يعرف أحد منا عنها ولا عن أقطابها أو عنوانها أي معلومة… لأن السؤال حول المقدسات يعتبر من المحرمات والممنوعات على الرَّعاع وعامّة البشر والأنام العاديين مثلنا في تلك الأيام الخوالي…!!
لم أفهم أيضا لماذا تَعَمَّدَ جدي أن يجعل مكان جلوس ومُتَّكَأ هذا الرجل الغريب الذي تم استقباله استقبالَ القدّيسين والبابوات، مباشرة أمام لوحة من المنمنمات الفارسية لذاك الزمن البائد أطلق فيها الفنان الذي رسمها العنان لمخيلته المجنحة… قام خالي بِتثبيتها بأربعة مسامير من العيار الكبير المستعملة في أوراش البناء بإحكام على جدار الغرفة، والتي كانت تزرع الكوابيس في مخيلتي على الدوام، وتبدو فيها بشكل جلي أيقونة الإمام علي رضي الله عنه وهو يقطع رجل عمرو بن ود…!؟