ضجر حاكم الخضراء، وجفاه النوم، وابتعدت الطمأنينة عنه…فلقد ظن أنه بعد أن استتب له الأمر، بإقفال دار الشورى، وإبعاد منافسيه، وتخلصه من مناوئيه، وزجه بخيرة القضاة في غياهب السجون…أن الحكم قد آل إليه…فلقد فاجئه، وزيره في المؤونة، يشكو له فراغ بيت المال، وضيق الحال، وشظف عيش الرعية، وغياب الرخاء في الأسواق، وكساد التجارة وإفلاس التجار…وعن تكالب الإفرنجة الذين أوقفوا الصدقات والعطايا…كان لهذا الخبر، وقع الصاعقة على الحاكم غير السعيد، القيس من غير ليلى…فهو لم يكن له عهد بالحكم، ولا دراية به، ولا سابق معرفة بفَنه وتفصيله…فلقد قذفته الفوضى، وثورة العامة ومزاجها إلى قصر الحكم…فاستحسن ذلك، وزاده غرورا، فنصب نفسه الحاكم الأوحد، يتلو البيانات التي يدبجها بنفسه وبريشته على عادة القدماء، ويخرج إلى الأسواق ليسمع مظلمة الرعية، بل ويحمل المؤون على كتفيه تقليدا لنهج خليفة العدل…كان هذا فهمه للحكم…الظهور، والخطابة، وكفى الله المؤمنين شر القتال، أما الباقي فإن الزمن كفيل بتدبيره…
ما العمل؟ هكذا سأل القيس من غير ليلى…فأجابه وزيره، بأن لنا جارا في غرب خيامنا، يجزل العطاء، ويفرق المال دون حسيب، على الجميع، فلقد حباه الله بنِعم لا تعد ولا تحصى، وبخير أسود يخرج من باطن الأرض يباع ذهبا، والإقبال عليه شديد…وأن في هذه البلاد شرذمة من السفهاء، المبذرين، الذين يمنعون الخير عن شعبهم، ويرمون بالذهب والفضة لدغدغة أحلام يقظة تراودهم، منذ قرابة أربعة عقود، يمنون أنفسهم بزعامة عظمى، وبمجد مصطنع، وبقوة متوهمة، لا سند لها في تاريخهم القصير المعلوم لدى الجميع…
لكن الحصول على رضاهم، يقتضي مقابلا، يبدو لي بسيطا؟…فما هو يا وٍزْرنا وسَندنا؟، هكذا سأل الحاكم غير السعيد…فأجاب الوزير، أن نتقرب لهم بالود والحسنى، وأن نفتح أذرعنا لهواهم، وأن نجاريهم في سفههم…وأن نكون صدى لكل ما يصدر عنهم…وأن نوالي من والاهم ونعادي من عاداهم…فكر القيس دون ليلى…ودبر قول وزيره، وقلبه، فوجد الأمر هينا…فصاح…غدا نزورهم في عاصمة بلدهم “كراغلة “، فلا تنس أننا عشنا معهم جميعا تحت مظلة الباب العالي لردح من الزمن، كما تقاسمنا معهم هم حكم الفرنسيس لنا…
جهزت الراحلة وتوجه، غير السعيد، ذو الوجه العبوس، الذي لا تدرك طبيعته ولا ملامحه…غربا إلى “بلاد كراغلة”، التي استقبلته بوفد عظيم، على رأسه ذو الإسم والوجه القبيح، وكبير زبانيته “الشنقريح” الإنكشاري…اللذان أكرما وفادته بما يليق، وبما هو معهود لديهم، فالكراغلة لا عهد لهم بحضارة ولا بخوان ولا بطقوس مرعية…فما انتهى زمن التحية، حتى شعر الجمع بأن الوقت قد حان لبسط الكلام، والمفاتحة في سبب الزيارة غير المتوقعة…فأخذ القيس دون ليلى طرف الحديث…فتحدث بحديث خالطه نشيج وحشرجة…فبسط مظلمته، فاشتكى من غياب رحمة السماء، وضيق ما جادت به الأرض، وتزايد طلبات الرعية، وغياب أفق لتجاوز ضيق ذات اليد، وحصار الإفرنجة المعادين لنهجه في الحكم…فهم الإنكشاري، المسألة على وجه السرعة، فعبر عن سعادته، لأن غير السعيد، قد طرق باب “كراغلة” التي لا ترد أحدا خائبا، ولا ينصرف عنها طالب وإلا وقد قضى حاجته…فطمأنه على أن “كراغلة” لن تقف مكتوفة الأيدي، وجارها في عوز وضيق، وأن رفعه عنها ممكن ومتأتى حالا…لكن، الكلام أخذ وعطاء، والسياسة هي مصلحة قبل أن تكون شيئا آخر…وهنا سينطق ذو الإسم والوجه القبيح…ليشكو من جانبه، مظلمته، فيردد بأن “كراغلة” جنة الله في الأرض، وأنها قوة عظمى، يخشاها الجميع، وأنها تصول في بلاد إفريقيا صولة الشجعان…لكن في حدودها “هوك”، جار مسيء، يعادي حق شعب مظلوم، خلقه القذافي وبومدين، جنينا، ونرعاه اليوم كهلا، لا يريد من هذه الدنيا، سوى وطنا…ونحن لا نريد في الموضوع، سوى طريقا إلى البحر، وخيرات الأرض، ودولة ضعيفة منكسرة في جوارنا، ودولة هشة وهمية نحكرها بأناملنا هذه كما تحرك الدمى…وأن نجعل حدا لامتداد جارنا في أفريقيا، وأن نقطع عنه الطريق للعبور إليها، وننهي مجده التليد بها، وتاريخه الحافل بحضارات امتد تأثريها ماديا ومعنويا إلى ربوعها…إن أكثر ما يضايقنا، هو أن الجميع يعرف “هوك”، ويقدره…و”كراغلة” وطننا المجيد لا يعرف له ذكر ولا شأن…
لم يكترث غير السعيد، لكل ما ذكر، فَهَمه ليس سماع الخطب العصماء، ولا أحلام اليقظة…وإنما أن يطمئن إلى دراهم معدودة، يضعها في جيبه، ويحسن حفظها إلى وصولها إلى “الخضراء”…نعم…لقد فهمت، لكن ما هو المطلوب مني؟ سيأخذ الشنقريح الإنكشاري الكلام، فيجيب، بأن الأمر هين، والمطلوب سهل، وهو في المستطاع…ويتمثل في أن تناصر دعوتنا، لإقامة وطن لشعب لاجئ في أرضنا، وأن تناصر حقه في إنشاء دولته وكيانه، وأن تفتح باب الخضراء لاحتضان دعوتهم ووفودهم…وفي المقابل، سنشجع رعايانا على زيارات واحاتكم، وسنمدكم بأموال كثيرة، وبنار تدفئة، وزاد لا ينقطع…
غادر غير السعيد، “كراغلة”، ومساعديه يجرون قوافل حملت بالمطلوب، وهو منتشي بنصر غير متوقع…مجرد كلمات، ومجرد وعود، ومجرد أفعال بسيطة…تذر كل هذا المال…إن الحكام السابقين للخضراء، إنما كانوا عمي، أو لم يكونوا يفهموا في السياسة…أن تترك خزائن كراغلة، وهي مفتوحة لمن يطلب، ويبحث عن المال في المجهول…إن هذا لضرب من الحمق…فما قولك يا وزيرنا؟ نعم سيدي، إن السياسة، هي الممكن، وجوهرها المصلحة، وهي التدبير…لكن السياسة هي أيضا مبدأ، وأخلاق، فإخوتنا في الغرب الإسلامي لم يصدر عنهم قط ما يقلق راحتنا، ويدهم بيضاء علينا…وأن موقفنا هذا المناصر لكراغلة ، يخرجنا من حيادنا، ولن يعجبهم…كما أننا سيدي، حضرت حلقة من حلقات درسكم، فاستوقفني ما كنتم تتحدثون عنه، من حكم الغرب القائم على الشورى، وعلى الكيانات وما سميته سيادتها، وما تحفل به مواثيقهم من حسن الجوار، وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية، وعلى أن الدول التي تحكمها شرذمة من قطاع الطرق، المسلطين للسلاح والنار على شعبهم، إنما حكمهم إلى زوال ويعاكس منطق التاريخ…
صَمت غير السعيد، فلقد ذكره الوزير بدرسه الذي ظل يردده طويلا على مسامع المتعلمين ردحا من الزمن…فلم يجد ما يجيب عنه سوى القول…إن فقهائنا قد أفتوا بجواز مبايعة صاحب الشوكة، ليس لعدل فيه، ولا لمروءة منشودة منه، وإنما لجبروته وطغيانه…هذا ما قمنا به، فقد بايعنا “كراغلة” لشدة خوفنا من بطشها، ونحن ضعاف لا حول لنا ولا قوة، كما أن مبايعتنا كانت مشروطة بالعطاء…وهو مذهب أعمل جاهدا لتأصيله حتى تدرك منافعه…صمت الوزير قليلا، فقال: إن الحكم سيدي ليس تجارة، وأن السياسة ليست معاملة تجارية، تتغيى الربح…وأن الحكم إذا طلق قواعد الأخلاق والمروءة سينتهي به الأمر إلى فساده، وسيعيش في عزلة، منبوذ ممقوت من الجميع، لأن الجميع يدرك أنه يسير بالمال ويهتدي بهديه…وهذا جنس الرشوى التي لعن الشرع مقدمها ومتلقيها…
*عضو لجنة الخارجية بمجلس النواب