*عادل بنقاسم
“جيل Z”، الذي وُلِد وعينه تُطل على شاشات الهواتف والحواسيب، يخرج الآن من قوقعة عوالمه الرقمية ليقتحم الشارع، بضجيج صامت أحياناً، وصراخ مدوٍّ في جوهره أحياناً أخرى. هي احتجاجات متواصلة تأبى أن تكون مجرد موجة عابرة (ترند)، بل مؤشر قوي على تحولات عميقة في آليات الفعل السياسي والاجتماعي. ولا يجوز لنا، ونحن نرصد ما يقع، أن نمر مرور الكرام دون تحليل لوضعية التقدم والحلول الممكنة.
هذا الجيل لم يتبلور في كنف المرجعيات الأيديولوجية الكبرى، بل تشكّل في فضاء الترند والهاشتاغ؛ فاحتجاجاته ليست وليدة برنامج سياسي تقليدي محبوك وممل، بل هي انفجار لمطلب وجداني مباشر: رفض للغلاء، نفور من الظلم، غضب من البطالة. إنه الغضب الجماعي الذي يمنح التجربة العاطفية المشتركة في الشارع قيمة تفوق صياغة البيان السياسي المفصّل.
هذا الجيل الأكثر اتصالاً بالعالم والأكثر وعياً بالفوارق المجالية وحالات الظلم العالمية، هو ذاته الذي يجد صعوبة في تأطير غضبه، إذ يترجمه إلى موجة احتجاجية رقمية تتحوّل إلى مظاهرة لحظية، ويكون معيار النجاح فيها هو مدى الانتشار والتأثير الآني. بطبيعة الحال، هذا لا ينقص من شرعية مطالبه، بل يضعنا جميعاً أمام تحدي تحويل الانفعال اللحظي إلى قوّة بناء مؤسسي.
ما نعيشه الآن هو خروج الجيل من حالة الكمون، وإدراكه الفعلي لقوّته ككتلة شبابية قادرة على إحياء الشارع. لقد أثبتوا أنهم ليسوا مجرد كائنات مسمّرة أمام الألعاب الإلكترونية، بل طاقة فاعلة تُحرّكها قضايا الصحة والتعليم ومكافحة الفساد. إنهم بصدد اكتشاف ذواتهم السياسية.
هذه الاحتجاجات أفرزت نمطاً تنظيمياً جديداً، لا مركزياً، يعتمد على المنصات الرقمية (كـ”ديسكورد” وغيرها) في التخطيط، والخرائط التفاعلية في تحديد مواقع الوقفات. هذه اللامرجعية تُعد تقدماً في حد ذاتها، كونها تُصعّب على السلطة التعامل مع الاحتجاج من خلال رأس واحد يمكن التفاوض معه، لكنها في المقابل تُضعف من قدرة الحركة على الاستدامة.
تجاوز مربع الانفجار يتطلب عملاً من جانبين؛ حيث يتوجب على النخب السياسية والمدنية أن تتخلى عن تبخيس هذه الاحتجاجات واعتبارها مجرد فورة شباب، بل عليها أن تقرأها كمؤشر حيوي على خلل عميق في السياسات العمومية التي لا تستجيب لحاجياتهم، وضعف إشراكهم في مختلف مناحي الحياة العامة. أستحضر هنا سنة 2012، عندما كنا نترافع من أجل تنزيل المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، المؤسسة الوحيدة التي تم إقبارها بعد 13 سنة دون مبرر معروف.
على مكونات المجتمع استيعاب الانفعال الجماعي في مسارات حكامة تشاركية حقيقية، ليس من خلال الحوارات الشكلية، بل بإنشاء مجالس شبابية رقمية أو منصات حوار تفاعلية يتمتع فيها صوت هذا الجيل بوزن فعلي في صياغة السياسات العمومية، خاصة في قطاعات الصحة والتعليم، في أفق بناء جسور بين الوجدان الرقمي والعقل السياسي. وذلك عبر مساعدة هذا الجيل في تحويل شعاراته الرمزية واللحظية إلى مطالب مؤطرة وبرامج إصلاح واقعية قابلة للتنفيذ والمتابعة.
من جهة أخرى، أتمنى أن يدرك الجيل المحتج أن الترند لا يصنع التغيير الجذري؛ فالتأثير اللحظي لا يعوض القدرة على البناء المؤسسي. عليهم منذ الآن البدء بالتفكير في محطة الانتخابات المقبلة، لتكون فرصتهم في المشاركة المكثفة بالترشيح أو التصويت والمساهمة الحقيقية في إدارة الشأن العام (لديهم هذه الإمكانية بما يزيد عن 7 ملايين شابة وشاب). ولأن قواعد الديمقراطية تمنح التدبير لمن يحصد الأصوات، فهي فرصتهم أيضاً للقيام بحملات توعوية رقمية باستثمار مهاراتهم في تحسيس من يعيدون النخب السياسية الفاشلة إلى دفة الحكم عبر بيع الأصوات. فرصتهم، وفرصتنا جميعاً، أن نحول هذا الغضب من “مجرد منفضة” يُلقى فيها الرماد، إلى منصة يُبنى عليها المستقبل.
*مستشار في قضايا الشباب والمجتمع المدني