أقل من شهر يفصلنا على طبع الكتب المدرسية الجديدة وطرحها في الأسواق، وها نحن نرى بعض الناشرين يهرولون زرافات إلى دول أجنبية لطبع آلاف الاسفار بعد أضافة عبارة “طبعة جديدة ومنقحة” على غلاف نفس الكتاب الذي كان مقررا خلال السنوات الماضية، ضاربين عرض الحائط تنمية الاقتصاد الوطني، والمشروع الملكي المتعلق بمليون محفظة المرتبط بإنتاج الكتاب المدرسي العمومي، وجيب آباء وأمهات التلاميذ!
وفي علاقة بالموضوع، لست أدري كيف خطرت ببالي أحداث قصة واقعية وطريفة، كان قد حكاها لي والدي رحمه الله، منذ أكثر من ثلاثين سنة مضت، وأنا أتأمل باندهاش هذا المساء مقالة في الصفحة الأولى من جريدة وطنية يومية تحت عنوان رئيسي:
“تهريب كتب مدرسية إلى الخارج”
وعنوان فرعي في عدد سابق:
“ناشرون يبتكرون بِدعة (الطبعة الجديدة) دون علم الوزارة لإنعاش مبيعاتهم”…
ومفاد القصة كالتالي:
بأحد الأسواق الأسبوعية في مغربنا العميق، أحضر بدوي فقير يدعى العياشي بوخناشي حماره الرمادي مرغما ومدفوعا من قِبَلِ العَوَزِ والفاقَة الّلعينين إلى السوق لكي يبيعه ويطعم بثمنه البخس زوجته المرضعة التي جفّ ونَضَبَ ثديها من إكسير الحياة، وستة صغار زُغْبِ الحَواصِل ينتظرونه ببطون فارغة في أحشاء كوخ جاثم في اللامكان، وهذا الحيوان النبيل كان آخر ما تبقى من ممتلكات هذا الرجل المُعْدَم والمحتاج، وكان يعشقه كثيرا نظرا لطول العشرة التي جمعتهما منذ كان جحشا صغيرا…
تقدم منه أحد “الشّنّاقة” يلقبونه في البلدة بالخوايضي، وكان سمسارا نذلا ومحتالا يكرهه كل رواد سوق الدواب والماشية… فخاطبه وهو يفتح فم الحمار حتى بدا ضِرس عقله…! وهو يمرر كفه من منبت الأذنين حتى آخر نقطة في ذيل الدابة المسكينة التي استسلمت لطقوس هذا الكائن المقيت:
– كم ثمن هذا الحمار الرمادي الهزيل والغشاش…؟
– ثلاث مئة وخمسون درهما يا سيدي، ثم أقسم لك بأن حماري ليس غشاشا، ويعمل بكل تفان ونكران للذات رغم بنيته الضعيفة، كما أن لونه الرمادي لا ينقص من جماله وحسن قوامه…
– مئة وخمسون درهما هو المبلغ الذي سأعطيه لك مقابل هذا الحيوان القبيح الطلعة والعديم الفائدة…
كلام هذا الشّنّاق الشرير، جعل كل تجار الدواب يبتعدون عن العياشي بوخناشي المسكين وحماره المظلوم وكأنهما مصابين بالجذام والطاعون…
تضرّع في قرارة نفسه إلى البارئ عز وجل، ودعاه بأن يعينه، ويجعل له مخرجا من هذا الموقف المحرج…
وبعدما لاحظ مكر البشر، ومدى استغلالهم لضعف إخوانهم في الدين واللغة والوطن، سرعان ما خطرت بباله فكرة عجيبة… جر حماره إلى “خربة مهجورة” خارج السوق، ثم قصد بائع مسحوق صباغة الصوف، وطلب منه أن يُهيئ له مِقدار خمس دراهم من خلطة الصباغة المؤقتة باللون الأسود الحالك… تسلَّم الإناء والفرشاة، واستعار مقصا، ثم قصد صديقه العزيز، وقام بقصِّ وحلق عُرفه الممتد من بين أذنيه حتى الكتفين، وجعل النّاصية المتدلية على جبهته قصيرة، كما شَذَّب ذيله بإتقان… وقام بصباغته كاملا باللون الأسود… أبتعد منه قليلا، فإذا به يرى حماره في كامل أناقته “بِلُوكٍ” جديد…!!
أعاد برفيق العمر إلى سوق الدواب، فإذا بعشرات التجار والسماسرة والفضوليين يتحلّقون حول العياشي بوخناشي وحماره الوسيم…
تقدم الشنّاق إيّاه منه وقال وهو يظهر له ابتسامة مصطنعة:
– الآن فقط يمكننا أن نقول أنك أحضرت حمارا ممتازا، ورشيقا، بعرف وناصية كالتي توجد لدى أجمل الأحصنة، كما أنني لم أر من قبل حمارا بهذا السواد الذي يفتن الألباب…
– ابتسم بوخناشي ابتسامة الواثق من قيمة سلعته النادرة، وقال بنبرة جادّة:
– ولكن ينبغي عليك أن تعلم بأن ثمن هذا الحمار الفريد من نوعه، والمستورد من “البرطقيز” أضعاف ثمن الحمار الرمادي المشؤوم الذي رأيته عندي قبل قليل…!!
فسارع “الشّنّاف” إلى طرح السؤال بدون تردد:
– كم ثمن هذا الغزال الجميل… قل لي كم يا سيدي العزيز، أريد أن أكسبه لكي يتناسل منه قطيع اتاناتي وفَرساتي في ضيعتي بالقرية؟
فجاء جواب العياشي حاسما مؤكدا أن الثمن لا يقبل المساومة:
– ألف درهم…
ما كاد السمسار الخسيس يمد يده إلى جيبه ليدفع ثمن الحمار، حتى جاء صوت شناق أخر مدويا:
ألف وخمس مئة درهم سيدي… أنا أشتري هذا الحيوان الميمون والفحل…
وصاح آخر:
– ألفان وخمس مئة درهم يا سيدي، سلّمني هذا الحمار الرائع والنادر…
استشاط الشناق الماكر غضبا، ولم يتقبّل أن ينافسه ويتحدّاه باقي السماسرة ويقفون أمامه وقفة النِّدّ للنّد، فأمسك بناصية الحمار العجيب بعنف وهو يردد بصوت عال:
– أنا سأشتري هذا الحمار بخمسة آلاف درهم… هل يوجد بينكم من يستطيع المزايدة… هيا… هيا…؟!
ساد صمت رهيب… ثم واصل الشناق وهو يوجه كلامه للعياشي بوخناشي:
– أرأيت…؟! لا أحد منهم يجرؤ على الوقوف في طريق العياشي بوخناشي…
عدّ النقود أمام الجمع الغفير من القرويين الذين كانوا يتتبعون باستغراب وعيون شاخصة هذا المزاد العلني العجيب الذي قُدّر لهم فيه أن يروا أغلى حمار في شمال إفريقيا…
قدم المبلغ للعياشي الذي كان يردد في قرارة نفسه دعاء آخر، ألا وهو رجاؤه من الله ألّا تُمطِر تلك الظهيرة، حتى يتمكن من بلوغ أبعد نقطة عن السوق الأسبوعي، وإلا فسيغسل وابل الشتاء جسد الحمار، وتزول الصباغة المستعارة المؤقتة، ليظهر الحمار الرمادي المقهور، تماما كما تظهر نفس الدروس عندما نتصفح الطبعات الجديدة لمقرراتنا الدراسية، وبالتالي يُجهض حلم العياشي بوخناشي في إطعام فراخه الجياع..
*فنان وفاعل جمعوي