بقلم: *ذ. محمد جناي*
إذا كانت الصلاة والزكاة ليس فيهما اختلاف بين المسلمين ، ولا دخل للشهور القمرية، ولا لرؤية الهلال بالنسبة إليهما ، فإن الصوم والحج رهما ركنان من أركان الإسلام ، وأن القيام بهاتين العبادتين لا يتم إلا برؤية الهلال ، فهما مدار الحديث ، ومنشأ الخلاف حول مواقيتها راجع إلى اختلاف مطالع الأهلة في مختلف البلاد ، فشهر الصوم هو رمضان يبدأ بميلاد هلاله وينتهي بميلاد هلال شوال ، والخلاف بين مطلع الهلال في مراكش مثلا وهي في أقصى الغرب وبين أندونيسية في أقصى الشرق لا يزيد على تسع ساعات ، وقد يرى الهلال في إحداهما دون الأخرى أو قبلها تبعا لاختلاف أفق كل منهما ، وقد يولد الهلال في بلد ما ، ولكن تتعذر رؤيته ، بالعين المجردة أو حتى بالتلسكوب لوجود غيوم وسحاب ، ولذا أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في بقاع الأرض المختلفة إلى الطريقة المثلى لتحديد بدء الصوم أي : بدء شهر رمضان فقال صلى الله عليه وسلم :” صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ” .[1]
ودرجت البلاد الإسلامية المختلفة على التماس رؤية هلال رمضان في ليلة الثلاثين من شعبان أي : في مساء التاسع والعشرين من شهر شعبان . وتفرع عن هذا أحكام فقهية ذكرها الفقهاء وأهمها: أنه كان في الماضي كل بلد وكل قطر يصوم وفق رؤية الهلال في أفقه، روى مسلم في صحيحه عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية رضي الله عنه بالشام قال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ، فقلت : أولا تكفي برؤية معاوية وصيامه فقال : لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.[2]
وبعد أن عرفنا روح الصيام ومعانيه – بصفة عامة – فماهي فرائضه المشروعة من الناحية الفقهية ؟
أولا : فرائض الصوم
فرائض الصوم عند فقهائنا أربعة على الراجح وهي :
( أ ) – ترك الأكل والشرب :
وذلك من طلوع الفجر إلى الغروب لقول الله تعالى :”أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَ۬لصِّيَامِ اِ۬لرَّفَثُ إِلَيٰ نِسَآئِكُمْۖ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٞ لَّهُنَّۖ عَلِمَ اَ۬للَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْۖ فَالَٰنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اَ۬للَّهُ لَكُمْۖ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّيٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُ۬لْخَيْطُ اُ۬لَابْيَضُ مِنَ اَ۬لْخَيْطِ اِ۬لَاسْوَدِ مِنَ اَ۬لْفَجْرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ اُ۬لصِّيَامَ إِلَي اَ۬ليْلِۖ “(البقرة :186)، فأباحهما إلى غاية وهي تبين الفجر ،ثم أمر بالإمساك عنهما إلى الليل أي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
( ب ) – ترك الوطء :
يجب على الصائم أن يمتنع عن كل ما يبطل صومه من سائر المفطرات، ومنها الجماع ،ونقل الإجماع على ذلك ابن حزم ، وابن عبد البر وابن تيمية.
قال أبو حامد الغزالي قدس الله روحه :” المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل وهو الصمدية والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان فإنهم منزهون عن الشهوات، والإنسان رتبته فوق البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته ، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه ، وكونه مبتلى بمجاهدتها فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين والتحق بغمار البهائم ، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة”.[3]
( ج ) – ترك القيء:
ترك إخراج القيء من طلوع الفجر إلى الغروب ، وأما من غلبه فلا حكم له ، وللإمام مالك رضي الله عنه قول في هذه المسألة : عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول :” من استقاء تكلف القيء وهو صائم فعليه القضاء ومن ذرعه ( أي غلبه ) وسبقه القيء فليس عليه القضاء إلا أن يتيقن رجوع شيء إلى حلقه بعد أن صار في فيه فيقضي قاله الباجي ” ( شرح الزرقاني)، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول أكثر أهل العلم.
( د ) – ترك إيصال شيء إلى المعد ( جمع معدة ):
سواء وصل لها من أذن أو عين أو أنف أو غيرها من طلوع الفجر إلى الغروب ،قال العلامة الحطاب المالكي في 《مواهب الجليل في شرح مختصر خليل》: ” سئل مالك عن الحقنة فقال : لا بأس بها ، قال الأبهري : إنما قال ذلك ، لأنها ضرب.من الدواء وفيها منفعة للناس ، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم التداوي وأذن فيه فقال :” ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء “. [4]
اختلف أهل العلم في من احتقن بحقنة في الشرج وهو صائم ؛ هل يفسد صومه على قولين :
القول الأول: أن صومه يفسد، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة : الحنفية، والمالكية، والشافعيّة، والحنابلة؛ وذلك لأن المادة التي يحقن بها واصلة إلى جوفه باختياره، فأشبه الأكل.
و القول الثاني : أنه لا يفسد صومه، وقد ذهب إلى ذلك أهل الظاهر ، وهو قول طائفة من المالكية، والقاضي حسين من الشافعية، وبه قال الحسن بن صالح، واختاره ابن تيمية مطلقا، ولا التفات إلى ما قاله بعض المعاصرين. ومن الحقن المعروفة الآن ما يوضع في الدبر عند شدة الحمى، ومنها أيضا ما يدخل في الدبر من أجل العلم بحرارة المريض، وما أشبه ذلك، فكل هذا لا يفطر،
وذلك للآتي:
أولا: أن الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن.
ثانيًا: لأن الصيام أحد أركان الإسلام، ويحتاج إلى معرفته المسلمون، فلو كانت هذه الأمور من المفطرات ، لذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة ، ونقل إلينا.
ثالثا: أن الأصل صحة الصيام، حتى يقوم دليل على فساده.[5]
ثانيا : شروط الصوم
لكل عبادة مفروضة شروط لابد من تحقيقها لصحة تلك العبادة ، والصوم من أجل العبادات كلها ، فله شروط أيضا بينها أهل العلم بأدلتها، وتنقسم هذه الشروط إلى شروط وجوب ، وشروط صحة ، وشروط وجوب وصحة معا وهذا بيانها:
الأول : شروط وجوب
يتحتم وجوب صوم شهر رمضان على كل مسلم عاقل طاهر قادر مقيم ، وشروط الوجوب اثنان هما : البلوغ والقدرة على الصوم ، وهذا بيانهما وتفصيلهما:
( أ ) – البلوغ :
قال ابن رشد :”وأما على من يجب وجوبا غير مخير : فهو البالغ، العاقل ، الحاضر ، الصحيح، إذا لم تكن فيه الصفة المانعة من الصوم ، وهي : الحيض للنساءِ، وهذا لا خلاف فيه ؛ لقوله تعالى:”فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ اُ۬لشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُۖ “(البقرة : 184).
( ب ) – القدرة على الصوم :
ودليل هذا الشرط قوله تعالى :”وَعَلَي اَ۬لذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَٰكِينَۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراٗ فَهُوَ خَيْرٞ لَّهُۥۖ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٞ لَّكُمُۥٓ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَۖ ” (البقرة : 183)، فالصيام على القادر الصحيح المقيم ركن من أركان الإسلام ، أما أصحاب الأعذار فعليهم بعد الاستطاعة أن يصوموا الأيام التي أفطروها للعذر ، وأما من امتد به عذره إلى أن لقي ربه فالله أرحم به من نفسه وصدق الله تعالى فقد قال : ” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِے اِ۬لدِّينِ مِنْ حَرَجٖۖ ” ( الحج : 76)، ولنا وقفة عند حكمها الفقهي.
فاختلف الفقهاء في الشيخ الكبير الذي لا قدرة له على الصيام على أقوال وأهمها :
(1) – قال فقهاؤنا المالكية في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام : يفطر ويطعم عنه لكل يوم من أوساط ما يطعم أي : وجبة متوسطة.
(2): قال مالك رضي الله عنه : لا أرى عليه إطعاما فإن فعل فحسن.
(3):وقال الثوري : يطعم ولم يذكر مقداره.
والخلاصة في حكم الشيخ الكبير يقول الله تعالى :” يُرِيدُ اُ۬للَّهُ بِكُمُ اُ۬لْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ اُ۬لْعُسْرَۖ ” (البقرة : 184) ، ويقول الله تعالى :” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِے اِ۬لدِّينِ مِنْ حَرَجٖۖ ” ( الحج : 76)،فهذه الآيات تبين حكمة ما شرع للعاجزين الذين يرهقهم الصوم إرهاقا قاسيا ، فرخص لهم الإفطار وأوصاهم بالإطعام عن كل يوم مسكينا ، وليس عليهم قضاء مستقبلا، لأن حالتهم الصحية في تدهور كلما تقدم بهم العمر ، ومن هنا فكل من أدركه الكبر وكان الصوم يرهقه ويكلفه عناء ومشقة فادحة ، لهؤلاء أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكينا وجبة واحدة فقط من الطعام.
أما من أصر على الصيام وكان كبيرا يلحقه الضرر والأذى فينبغي أن يوجه توجيها دينيا يبين لهم أن الدين رحمة ، وكما كتب عليهم الصيام أداء وهو عبادة سرية بين العبد وخالقه ، فقد رخص لهم في الإفطار إن كان فيه أذى بصحتهم، والله الخالق كما يحب أن تؤتى عزائمه، فإنه يحب أن تؤتى رخصه ، ولا ينبغي الإعراض عنها ، وذلك مصداقا لما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم” إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه”.[6]
الثاني : شروط الصحة
( أ ) – الإسلام :
لا يجب صوم رمضان إلا على مسلم قادر على الصوم ، فلا يجب على كافر ، قال ابن رشد: ” أما على من تجب فعلى المسلم البالغ، ولا خلاف في ذلك” .
( ب ) – الزمن القابل للصوم:
وينقسم إلى قسمين : أحدهما زمان الوجوب وهو شهر رمضان والآخر زمان الإمساك عن المفطرات وهو أيام هذا الشهر دون الليالي. [7]
( ج ) – والنية على الراجح:
النية مطلوبة في كل عبادة من العبادات وفي كل عمل من الأعمال لقوله تعالى :”وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ اُ۬للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اُ۬لدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ ” (البينة : 5) ، وقوله صلى الله عليه وسلم :” إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ” وشرط صحة النية ، هو إيقاعها ليلا ؛ ومحلها من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق ، أو مع طلوعه، والدليل :
أ – عن حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من لم يجمع الصيام قبل الفجر ، فلا صيام له .
ب – عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول : لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر .
وتكفي نية واحدة لكل صوم يجب التتابع فيه كرمضان ، وكفارته ، ويندب تجديد النية كل ليلة .[8]
الثالث : شروط الوجوب والصحة معا:
( أ ) : العقل : فلا يجب على المجنون والمغمى عليه ، ولا يصح منهما .
( ب ) : النقاء من دم الحيض والنفاس : قال ابن رشد : من شروط وجوب الصيام وصحة فعله الطهارة من دم الحيض والنفاس ، لأن الصيام لا يجب عليهما ولا يصح منهما لكن القضاء واجب عليهما.
( ج ) : دخول الشهر : دخول شهر رمضان شرط في صيامه وقد نص عليه العلماء ، وبينوا أحكامه مستدلين بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم.[9]
انتهى..
وفقنا الله وإياكم لكل خير وطاعة وبر ، وصرف عنا وإياكم كل سوء وشر إنه ولي ذلك والقادر عليه ومولاه.
* خرّيج جامعة القرويين ، كلية أصول الدين بتطوان (2011) ، خرّيج برنامج صناعة المُحاور (الدفعة السادسة )، أكاديمية صناعة المحاور .
هوامش :
[1]: المبسط في الفقه المالكي بالأدلة ، تأليف الدكتور التواتي بن التواتي ،الجزء الثاني ، كتاب الصوم والحج، دار الوعي للنشر والتوزيع ، الجزائر ، الطبعة الثانية : 2010، (ص: 94).
[2]:نفس المصدر السابق وبتصرف يسير (الصفحات : 94 – 95).
[3]:إحياء علوم الدين ، تصنيف الإمام أبي حامد الغزالي ، الجزء الأول ، الناشر : مكتبة الصفابالقاهرة ، الطبعة الأولى 2003 صفحة : 277
[4]: نفس المصدر وبتصرف، (صفحات: 136، 138، 139 ،141).
[5]: موقع الدرر السنية ، الموسوعة الفقهية ، كتاب الصوم ، الباب الرابع : مفسدات الصيام وما يكره للصائم وما يباح له ، الفصل الأول : ما يفسد الصوم وما لا يفسده، المبحث الثاني عشر : حكم الحقنة الشرجية.
[6]: كتاب المبسط في الفقه المالكي بالأدلة ،تأليف الدكتور التواتي بن التواتي، صفحات :(150،149،144،143 ).
[7]: نفس المصدر السابق ، صفحات :(150 -151 – 153).
[8]: الحبيب بن طاهر ، كتاب الفقه المالكي وأدلته، الجزء الثاني : الزكاة – الصوم – الحج ، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر بيروت- لبنان ، الطبعة الخامسة ، 2007،( صفحة : 83 – 84).
[9]:المبسط في الفقه المالكي بالأدلة، (صفحات : 158 – 159 – 161).