المساء24
احتضنت رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، صباح اليوم، جلسة مناقشة دكتوراه في الآداب باللغة الإسبانية ضمن وحدة التكوين «المغرب، إسبانيا وأمريكا اللاتينية: التدبير الثقافي والديبلوماسي» في موضوع:Estudio documental de los tratados de cooperación bilateral hispanomarroquí: 1956-2020 (دراسة وثائقية لمعاهدات التعاون الثنائي المغربي الإسباني: 1956-2020)، قام بإعدادها الطالب الباحث منعم أولاد عبد الكريم، تحت إشراف الأستاذة الدكتورة كريمة حجاج.
ولقد تشكلت لجنة المناقشة من الأستاذ الدكتور عبد اللطيف الغيلاني رئيسا، والأستاذة الدكتورة كريمة الحجاج مشرفة، والأساتذة الدكاترة الزبير أشرقي (كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان)، تماضر شقور (جامعة ابن طفيل بالقنيطرة)، إحسان المايل (المدرسة العليا للأساتذة بمرتيل)، ومحمد بلال أشمل (كلية أصول الدين بتطوان) أعضاء.
وكما جرت به العادة، فقد تقدم في البداية الطالب الباحث بعرض مركز حول أطروحته تناول خلالها أهم محاورها ومحتوياتها ومراحل إنجازها والمنهيجة المتبعة مع أهم الخلاصات والنتائج التي وصل إليها، بعد ذلك أسندت الكلمة لأعضاء لجنة المناقشة تباعا لإبداء ملاحظاتهم وتقييماتهم للعمل المنجز. وبعد المداولة، قررت اللجنة العلمية الموقرة منح الطالب الباحث عبد المنعم أولاد عبد الكريم درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع.
ويعد الهدف الرئيسي من وراء إنجاز هذه الأطروحة هو معرفة كم وطبيعة المعاهدات الثنائية المبرمة ما بين المغرب وإسبانيا خلال الفترة الممتدة من 1956 إلى 2020، ومن تم فهم مدى تأثير هذه الوثائق الدولية في توجيه العلاقات بين البلدين، من خلال الإحاطة بالسياقات الموضوعية التي تم فيها توقيع هذه المعاهدات، ثم تحديد إلى أي مدى يمكن اعتبارها معيارا علميًا دقيقا للقيام بتقييم شامل وموضوعي لمختلف أبعاد هذه العلاقات، خاصة إذا ما علمنا أن الأمر هنا يتعلق بمجموعة وثائقية ملموسة ومنسجمة، قابلة للملاحظة والقياس على شكل متغيرات إحصائية كمية وكيفية.
ولتحقيق هذه الأهداف، اختار الباحث نهج مقاربة ترتكز على منهج البحث الوثائقي، الذي يتمثل في ايجاد إجابات لمجموعة من الفرضيات من خلال اختيار وتجميع المعلومات التي تختزلها الوثائق والمادة الببليوغرافية، وذلك بعد إخضاعها للمعالجة والتمحيص من خلال سلسلة من أساليب وتقنيات الدراسة والتحليل التي يتيحها هذا المنهج.
وتجذر الإشارة إلى إن البحث الوثائقي إنما هو عمل ذهني وفكري ينجزه المشتغلون في حقل المعلومات، أو محافظو المكتبات، أو أمناء الوثائق، أو محللو البيانات، أو الباحثون العلميون من أجل استخلاص الاستنتاجات وإعداد الرسائل وتعميم المعطيات عى الأوساط العلمية، على وجه التحديد، ثم على كافة المجتمع، في بُعده الأوسع، لأن الأمر يتعلق أساسا بنشر المعرفة وإغناء الحقل العلمي، في نهاية المطاف. إلا أن ذلك لا يتأتى إلا بتمحيص المعلومات الموجودة في الوثائق، والتي تختلف أجناسها حسب طبيعة الموضوع المزمع دراسته.
وهكذا، وقبل الشروع في تحليل المعاهدات الثنائية الإسبانية المغربية في حد ذاتها، تضمنت الاطروحة موضوع هذا المقال فصلا أوليا للتأصيل المفاهيمي تضمن الإطار النظري والمنهجي للبحث وسياقاته المفاهيمية والتاريخية. وهكذا أورد صاحب الباحث فصلا للإحاطة بمفهوم «المعاهدات الدولية» كما تحدده اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات المعتمدة من قبل هيئة الأمم المتحدة سنة 1969، مع التركيز على تصنيفاتها، المسار التشريعي للمصادقة عليها، دخولها حيز النفاذ ثم العمل على تطبيقها والالتزامات الناتجة عنها. ثم نجد بعد ذلك عرضا لتطور للعلاقات المغربية الإسبانية عبر التاريخ، يليه جرد للخطوط العريضة للسياسات الخارجية للدولتين، المغربية والإسبانية، خلال الفترة المتراوحة ما بين 1956 و2020 بخصوصياتها، شروطها، أسسها وتطوراتها؛ ذلك لأنه من الصعب فهم طبيعة العلاقات الثنائية بين الدولتين دون الإلمام بالسياسات والسياقات التي تنتجها، والعوامل التي تحكمها وتكيفها.
خلال المبحثين الثاني والثالث، حاول الباحث استجلاء كيفية تأثير المعاهدات الثنائية المغربية الإسبانية في تطور العلاقات السياسية والديبلوماسية للدولتين، وإلى أي مدى ساهمت المنعطفات التاريخية والجيوسياسية التي اجتازتها هذه العلاقات في إبرام أو لا اتفاقيات بين المغرب وإسبانيا. ومن أجل ذلك قام بإنجاز إحصاء للمعاهدات الثنائية الموقعة بين المغرب وإسبانيا منذ 1956 انتقى على ضوئه عينة بحث قابلة للدرس والتحليل وتفيد في تحقيق أهداف هذه الأطروحة من الناحية العلمية، قبل الشروع في تصنيفها كما وكيفا، وفقا لمعايير موضوعاتية – زمنية مستوحاة من منهجية البحث الوثائقي.
وأظهرت عمليات التحليل والتفيئة، وجود ثلاث مراحل رئيسية لإبرام المعاهدات بين المغرب وإسبانيا، تخضع لمنطق معين في إطار سيرورة العلاقات السياسية والدبلوماسية الثنائية بين الدولتين، وهو ما يتقوم الباحث بشرحه وتفصيله في الفصل الأخير الذي خصصه للتحليل النقدي للاستنتاجات.
تغطي أول مرحلة السنوات التسعة عشر الأولى بعد استقلال المغرب، والتي كان خلالها لعاملي إنهاء الاستعمار والنزاع الترابي بين المغرب وإسبانيا ثقل خاص وتأثير على نوعية الاتفاقيات المبرمة بين الدولتين؛ أما المرحلة الثانية فتمتد من سنة 1975 وإلى حدود بداية الألفية الجديدة، وخلالها انتقلت العلاقات المغربية الإسبانية من منطق المواجهة إلى منطق الصداقة وحسن الجوار، الذي تعتبر لحظة توقيع «معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون بين المغرب وإسبانيا» في عام 1991، والتي دخلت حيز النفاذ في عام 1993، إحدى أهم تجلياتها. فيما تمتد المرحلة الثالثة حتى عام 2020، تميزت خلالها العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا بتقلبات حادة، لكنها انتهت بفترة من الاستقرار والتفاهم يمكن وصفها بأنها مرحلة النضج الكبير للعلاقات الإسبانية المغربية. وكنتيجة وتأكيد لهذا النضج، تمكن المغرب وإسبانيا من التغلب على كل التوترات الدبلوماسية التي مرت بها علاقاتهما من أجل إرساء أسس الشراكة الاستراتيجية التي تجمعهما حاليا والتي صيغت في إطار مبادئ وقيم والتزامات ثنائية جديدة.
وعن أطروحته صرح لنا الباحث منعم أولاد عبد الكريم «أنه لمن الصعب دراسة شيء معقد مثل علاقات الجوار بين دولتين، ويزداد الأمر صعوبة حينما يتعلق بدولتين تنتميان إلى ثقافتين وحضارتين مختلفتين، ومناطق جغرافية منفصلة ومساحات جيوسياسية غير متكافئة، خصوصا لما تكون علاقتهما ضاربة في التاريخ، مع كل ما يميزها من تجاذبات وتقاطبات مستمرة. وهذا هو حال العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا، التي أنتجت دراستها رصيدا ببليوغرافيا ووثائقيا غنيا، لكونها تشكل نموذجا فريدا وملهما للغاية في مجال العلاقات الدولية. فمع تطور العلاقات بين المغرب وإسبانيا، وبلوغها قدرا معينا من النضج، صارت تترسخ لدى سلطات البلدين قناعات مؤكدة أن الصراع والمواجهة لا يصب في صالح أي من الطرفين، وأنهما، بالتالي، أمام واجب إيجاد أفضل الصيغ، وأنجع الأساليب والأدوات لحل خلافاتهما بالطرق السلمية وتوحيد مصالحهما.» وفي هذا الصدد، أضاف الدكتور منعم أولاد عبد الكريم أن «العمل الدبلوماسي يعد إحدى الركائز الأساسية التي تعتمدها الدولتان المغربية والإسبانية لتدبير القضايا الخلافية الكامنة في عمق علاقاتهما، وذلك بالاعتماد على الحوار والتفاوض الدائمين مع كل ما ينتجانه من معاهدات ثنائية توثق التزاماتهما تجاه بعضهما البعض وترسم خارطة الطريق التي ينبغي أن يسلكانها من أجل صيانة مصالحهما المشتركة ومواجهة كل التحديات المستقبلية ودرء لكل المخاطر التي قد تعترض شعبيمهما، وبالتالي الإسهام في بناء علاقات متينة ذات يعد استراتيجي، تضعها في منأى عن التقلبات الظرفية الإقليمية والدولية.»
وأردف الباحث صاحب الأطروحة، التي حظيت بإشادة كبيرة من قبل أعضاء لجنة المناقشة، «أن هذه الأطروحة إنما هي ثمرة تلك التحولات المهمة التي شهدتها شعبة الدراسات الإسبانية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، منذ إنشائها في عام 1986 مع كل التصويبات، التغييرات، التعديلات والتكيفات التي أدخلت على مناهجها الدراسية وعرضها الأكاديمي والتكويني، مما أتاح لنا كطلاب بهذه الشعبة مجالات أوسع وإمكانيات أكبر لاختيار خط البحث المناسب لكل منا”.
وتعد وحدة التكوين بسلك الدكتوراه «المغرب وإسبانيا وأمريكا اللاتينية: التدبير الثقافي والدبلوماسي» المنشأة حديثا مثال حيا لهذا التوجه الأكاديمي وهذا التطور الكبير في المنهج الذي شهدته هذه الشعبة. وفي هذا السياق وفي إطار هذه الدينامية الخلاقة، نما وتعزز اهتمامنا بتاريخ وتطور العلاقات المغربية الإسبانية، مع ما رافق ذلك من رغبة في فهم أكثر وأفضل لكيفية تشكلها واشتغالها وتقدمها، تعتبر هذه الأطروحة باكورة لها».

