بتاريخ 7 غشت الجاري صدر عن المندوبية العامة للسجون و إعادة الإدماج بلاغ صحفي أعلنت فيه بأن عدد السجناء بالمؤسسات السجنية المغربية بلغ 100004 سجين و أن الطاقة الاستيعابية في حدود 64600 سجين و ذلك رغم المجهودات المبذولة من قبل الإدارة لتوسيع حضيرة السجون .. و عبرت فيه عن قلقها من التزايد المهول للسجناء ..و دعت فيه السلطات الإدارية و القضائية إلى الإسراع بإيجاد حلول لتفادي الاكتظاظ بالمؤسسات السجنية مع ما يترتب عن هذا الوضع الإشكالي المقلق من اختلالات أو حتى انفلاتات أمنية … ” . فالبلاغ الصحفي إذن هو إعلان استغاثة عن إشكال مقلق يقتضي إيلاءه النظر الذي يستحقه و ذلك بالبحث عن أسبابه و طرق علاجه .
و دون مواراة، يمكن القول بأن معضلة اكتظاظ السجون هي في الحقيقة انعكاس للمأزق الذي تعيشه السياسة الجنائية و الغموض الذي يكتنف علاقة الفاعلين الأساسيين فيها خاصة بعد استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية. ذلك أن اعتماد العقوبة الحبسية كأساس لمواجهة الجريمة هي من بين الأسباب المؤدية إلى اكتظاظ السجون ولو أن عوامل هذه الأخيرة تتعدى حدود العدالة الجنائية إلى مجالات أخرى يستحيل الإحاطة بها في موضوع واحد , وبالتالي فإن بلورة سياسة جنائية تتبنى استراتيجية شمولية تعتبر العقوبة الحبسية الملاذ الأخير لمواجهة الجريمة هي الأساس و ذلك بالاعتماد على تطوير برامج ومشاريع حول الجريمة والعدالة الجنائية وإيجاد بدائل من شأنها احترام الحقوق الأساسية للمحرومين من الحرية وحماية موظفي السجون بطريقة تتفادى التبسيط والسطحية في التعامل مع الآفة من قبيل الاقتصار على الزيادة في السجون أو الإفراج الجماعي على السجناء باعتبار أن مثل هذه الوسائل قد تعالج عواقب الاكتظاظ دون التصدي لجوهر المشكل. فالبلاغ الصحفي المذكور و دون الخوض في خلفياته أو مدى أحقية الجهة التي أصدرته في تنزيله، كان مناسبة لطرح مشكلة اكتظاظ السجون للنقاش التي عرفت في العقد الأخير اضطرادا تصاعديا غير مسبوق وينذر بحصول كارثة لا قدر الله . وأعتقد أن الأمر يقتضي فتح نقاش شجاع و هادئ ينصب بالأساس حول التعجيل بتنزيل نصوص تزيح تلك الضبابية التي اكتنفت السياسة الجنائية و التي لم ينفع معها صدور قرار المجلس الدستوري 991/16 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية و القرار 992/16 المتعلق بالقانون الأساسي للقضاة , فالسياسة الجنائية في الوضع الراهن بعد استقلال النيابة العامة أصبحت مرتبكة إن لم نقل غائبة و سمحت بالتالي لمديرية السجون و إعادة الإدماج بأن تتدخل في أمر كان يقتضي منها الاقتصار على كتابة تقرير توجهه إلى السلطة الوصية لتتخذ بشأنه ما تراه ملائما دونما حاجة إلى إصدار بلاغ صحفي موجه إلى الرأي العام و تدعو فيه السلطات الإدارية و القضائية إلى الإسراع بإيجاد حلول لمعالجة الإشكال المقلق … ” فخرجة السيد مدير الإدارة العامة للسجون و إعادة الإدماج و الخارجة عن نسقها الطبيعي تعكس بوضوح الأزمة المسكوت عنها التي تعيشها السياسة الجنائية و آلياتها و الفاعلين الأساسيين فيها .
إن مواجهة الاكتظاظ بالسجون يقتضي كمبدأ عام احترام مبدأ قرينة البراءة و ذلك بالحد من استخدام الحبس الاحتياطي الذي ينتهك المبدأ المذكور و إرساء جو من الثقة في الوسط القضائي و تمكينه من إعمال سلطته التقديرية في اللجوء إلى ظروف التخفيف بكل استقلالية دونما تشكيك في نواياه من أي جهة كيفما كان مصدرها, مرورا بالتدابير و الوسائل البديلة من قبيل الإفراج المبكر ,الإفراج المشروط , الإقامة الجبرية ,استخدام الأجهزة الإلكترونية , العفو , التخفيف من العقوبة لحسن السلوك أو المشاركة في البرامج التعليمية أو إعداد تدابير بديلة لمجموعات خاصة مثل النساء الحوامل و أمهات الأطفال الصغار و المسنين و دوي الاحتياجات الخاصة . فضلا عن تبني تدابير رامية إلى إلغاء تجريم الأفعال الغير العنيفة وتبني إجراءات العدالة التصالحية في الإجراءات الجنائية. وتقليص الفترة بين بداية الإجراءات ونهايتها مع الحكم النهائي.
ولعل أهم النواحي الواجب إيلاءها الأهمية للقضاء على معضلة الاكتظاظ الحرج يمكن تلخيصها فيما يلي:
• تجنب الالتجاء الى العدالة الجنائية، أو تفادي معالجة بعض القضايا البسيطة جنائيا وتعزيز آليات المصالحة والوساطة وتعويض الضحية.
• تنفيذ عقوبات غير حبسية، والاقتصار على السجن بالنسبة للجرائم العنيفة التي تسبب ضررًا اجتماعيًا خطيرًا.
• التأكد من أن الحرية الشخصية مكفولة كقاعدة عامة أثناء المساطر القضائية والإدارية واعتبار الحرمان من الحرية استثناء من القاعدة كتدبير وقائي مع مراعاة معايير الدقة والضرورة القصوى والتناسب والظرفية.
•الاقتصار على حبس الأشخاص في حدود القدرة الاستيعابية للسجون مع الزيادة في عدد المنشآت السجنية للضرورة القصوى مع احترام المعايير الدولية في هذا الصدد والأخذ بعين الاعتبار وضعية ساكنة السجون الموجودة في وضعية هشة.
• الحد من تسييس الأحكام.
لقد مر أكثر من عقد من الزمن على تنزيل الدستور و تم التعجيل بتنزيل المقتضيات التي أعطت الاستقلال للنيابة العامة فيما بقيت نصوص القانون الجنائي و المسطرة الجنائية في الرفوف تتجاذبها نقاشات عقيمة , و هذا التأخير الغير المفهوم يلقي بضلال من الشك حول مسار المنحى الذي اختاره المشرع بالرغم من مرور أكثر من عقد من الزمن على تنزيل الدستور و هي فترة ليست باليسيرة ستزداد معها الوضعية استفحالا ليست فقط بالنسبة للسجون بل قد تطال قطاعات أخرى قد يكشف عنها بلاغ صحفي آخر و خرجة أخرى خارج النسق . فالبلاغ الصحفي المذكور في حد ذاته لن يغير شيئا في غياب تنزيل نصوص قانونية الآن آخذة بعين الاعتبار أهداف السياسة الجنائية التي لا تقتصر على الحصول على أفضل صياغة لقواعد القانون الجنائي بل تمتد إلى إرشاد القاضي الذي يضطلع بتطبيق هذه الأخيرة وإلى الإدارة العقابية المكلفة بتطبيق ما قد يحكم به القاضي .