لم يعد التسول تلك الظاهرة التي تفرزها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. بل إن توظيف مختلف المقاربات سواء السوسيولوجية أو الإقتصادية أو…في رصد عملية تفشيها وانتشارها بشكل مرضي يزيح عنها هذا التوصيف.
لقد عمل العقل التسولي على تطوير ذاته، حيث سعى إلى تحيين مهاراته على مستوى لغة الجسد والمتن المكونة لخطابه باستعمال عبارات ذات حمولة دينية تنفد إلى وجدان المتلقي المُتصدِّق المفترض بكل سلاسة، مستعملة في ذلك مكونات البنية النفسية للمتلقي محور عمليات التطوير، بشكل يجعل آلياته قادرة على دغدغة الجانب العاطفي والوجداني للمُتصدق، وكذا إقناعه بجواز الأجر الأخروي. كل هذه العناصر المركبة جعلت التسول ينتقل من ظاهرة تجد مبرراتها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع إلى حرفة تمارس بشكل منضبط يخضع لسلوك واع واحترافي يتطلب مهارات تنكرية. ولم يعد العقل التسولي يقتصر على “التسول الكلاسيكي” بل تعداه إلى خلق مشاهد مُمَسرحة تنبني على حيل تقدم المتسول كضحية لوضع ما، كمرض مزمن ، أو عاهة مستديمة مفبركة، أو أزمة مادية مباغتة، والمراد من هذه الحالات المُمسرحة خلق حالة فقر ملتبسة يسعى المتسول من خلالها للسيطرة على الحالة النفسية للمُتصَدق وتجريده من كل ردة فعل واعية خاضعة للعمليات الذهنية والعقلية القادرة على التمييز بين ما هو مفبرك / مصطنع وما هو تلقائي، وبالتالي فك رموز التحايل الذي يحاول المتسول ممارسته عليه، بحيث يحيله الموضوع لفريسة يجب احتواؤها والسيطرة عليها عاطفيا.
والملاحظ أن المتن المستعملة في استعطاف المتصدقين عرفت استحداثا وتحيينا بصيغ لم تعد تقتصر على عبارات من قبيل : “شي صدقة على ربي”، أو “لوجه الله”..بل أصبحت تتخذ أشكالا أخرى فيها نوع من الجرأة التنمرية، حيث أصبحنا نسمع متن من قبيل : “شي درهم”، “شي كسكروط” ،” شي قهوة”..وتتغير هذه العبارات حسب طبيعة المحلات التي تتم حولها عملية التسول. فحينما يتعلق الأمر بجنبات المحلات التجارية تستعمل عبارات : “شي إطرو ديال الحليب”، ” شي خبزة “، شي حوت” ،” شي كارو”..ويلجأ المتسولون إلى إعادة بيع ما تحصلوا عليه من هذه العملية بأثمنة بخسة . كما يستغلون المناسبات الدينية كعيد الأضحى للحصول على كميات مهمة من لحم أضحيات المتصدقين الراغبين في نيل أجر صدقتهم، خاصة أن هذه المناسبة تكتسي طابعا مفعما بالمشاعر الدينية فيقومون ببيعها لمحلات تستغلها في تحضير ما يعرف في لغتنا الشعبية ب ” الخليع”. وتشكل المحلات التي تعرف رواجا المحج الذي يتردد عليه المتسولون بشكل مضطرد. وتبقى الشبابيك الإلكترونية للأبناك ،خاصة أثناء تحويلات أجور الموظفين من الأماكن المحببة لديهم.
ولم تعد هذه الظاهرة تقتصر على الكبار، بل لوحظ في السنوات الأخيرة انتشار نوع من التسول المقنع، أبطاله شريحة من الأطفال يترددون على المقاهي ومواقف السيارات وعند علامات الوقوف خاصة في المدارات الطرقية، لبيع منتوجات من قبيل الشكلاطة أو “كلينكس”. لكن في واقع الأمر مرتادو المقاهي يتصدقون على هؤلاء الأطفال ويمتنعون عن الاحتفاظ بما يقدم لهم الشيء الذي يساهم في تنشيط هذا النوع من التسول.
ومن الأشياء المثيرة في هذه الظاهرة اعتمادها سلوك يميز الحيوانات في تحديد مناطق نفوذها، ذلك أن المتسولين يحددون مجال سيطرتهم التسولية من خلال منع أي متسول آخر اقتحامها. وقد استطاعت هذه الظاهرة مواكبة تطور وسائل التواصل الاجتماعي، وسخَّرتها لتحقيق مآربها.
ويمكن تصنيف التسول الإلكتروني كتسول مُقنَّع ضمن أحدث وسائل التحايل العاطفي على المتصدقين الذي يستهدف شرائح شاسعة من الفئات الاجتماعية، مما يتيح مداخيل لا يستهان بها.
إن استفحال هذه الظاهرة يجد مبرراته في اقتداء معارف وجيران المزاولين لها، خاصة حينما يطلعون على عائداتهم اليومية من هذا النشاط التسولي. وهناك من يغادر قريته للالتحاق بالمدن المجاورة قصد مزاولة هذه “الحرفة المقنعة” المدرة لدخل يسيل لعاب المتسولين / الوافدين الجدد على المهنة.
وإذا لم يتم تفعيل القوانين (الفصلين 326 و327 من القانون الجنائي المغربي) المحرمة لهذه المسلكيات، فإن هذه الظاهرة ستكتسح القيم الأخلاقية للمجتمع، وستفضي إلى استنبات أخلاق غريبة عن مجتمعنا، الشيء الذي يهدد نسيج المجتمع التكافلي والتضامني نتاج تراكمات تنشئة تربوية واجتماعية لعدة قرون.
وبالموازاة مع ذلك يجب التفكير بجدية في مؤسسات اجتماعية تناط لها مهمة احتواء هذه الظاهرة ومعالجتها مؤسساتيا.