توقيع: الأديبة العربية باسمة العوام
بين الواقع والخيال، تطول المسافات، يتسع المدى، تشخص الهاوية ويتلاشى الأبد.
كاتب يجيد إطلاق سهامه ليصطاد الكلمات في فضاء اللغات، تنفلت منه روح الحروف ليحررها فوق السطور، وبها يمتهن احتكار الضوء والهواء والليل والنجوم التائهة على الدروب؛ يملأ سطوره بعناوين مزركشة بمداد ملوّن من روحه وعالمه، تجهش ذاكرته بكلّ ما عبًر بخياله و خبَر واقعه، أو جاش في دواخله أو عايش وقائعه؛ إنه الكاتب المغربي ” محمد آيت علو” في عمل جديد وإبداع آخر، كتاب تحت عنوان “معصرات” .
“معصرات” أو غيمات حبلى بالمطر، تهطل على صفحاته “سبعة عشر نصّاً؛ تتفجر ينابيع أعماقه بذكريات وأحداث يسطرها صمت راحل، في ضجة المطر والمسافات بين الماضي والحاضر والآتي، تصهل بين حروفه بلا صدى؛ ترسله الصور ليفتح أبواب الدهشة والترميز والتأويل، لنقرأ عناوين لمسافات تحملنا لطرح التساؤلات والتكهنات بما تخفيه بين سطور تلك النصوص: أفكارها، منعكساتها، شخوصها، وماهية نهاياتها؛ وهي المسافة:
– 1) أجنحة بيضاء وثلج، -2) أحياء لا يرزقون، – 3) رحيل نهار بارد، -4) زهر ينتظر مقبض يد،-5) رقص عكازة تحت المطر، -6)لا أحد يسأل، -7) الروبوت الطائر ،-8) موت معلّق، -9) انقباض، -10) أوراق عارية على عتبات الوقت ،-11)ويكبر العالم،- 12) السانديكا وابتهاج الريح -13) ألواح المسرّة ،-14) تغريدات آخر ،-15)لاشيء غير. الغثيان، – 16) تتثاقل الخطوات، -17)تشابك محتوى .
نخطو بكثير من الفضول لفتح تلك الأبواب واستكشاف تلك المسافات في مئة وست عشرة صفحة (116)، لنجدنا وكأننا في تلك المدينة الميتة التي يحملها المهاجرون في ضوء الحلم، حيث الضوء يتسرب من شقائق الصخر، من عمق البحر، من غبار الصحاري، من روح التراب، من كل المنافي والدروب، وخطوات تستلقي على جفن النهار .
والبداية مع ذاك الحالم الذي ينهض من حلمه، يلون مرآته بالأسود، يفتح نافذته ليرى، ثم ينطلق وكما يقول الكاتب، بأجنحة بيضاء إلى حيث الصقيع اللامنتهي:*” انطلق كالبرق الخاطف يساوره إحساس أنه يصير مثل الساحر ليس إلا، يطير بسرعة مرة واحدة، وقد ودع البدر خلف الأفق، وفرّ كدبّ القطب وحيدا، حيث الصقيع والثلج الأبيض الناصع لانهاية له …”.
وفي المسافة الثانية ” أحياء لا يرزقون “، نلتقي بنساء الفقيد وورثته الذين يصفهم الكاتب بقوله:”وحدهم الورثة الذين يلوحون بشهادة الوفاة، متبوعين بلفيف من الشهود يؤكدون استمرار الحياة…”.
ونمضي بخطوات مثقلة بالدهشة والحيرة، في مسافات مجردة، وشخوص بلا أسماء تخفي الكثير من ملامحها، مسكونة بالإنسانية بكل معانيها، إحساساتها، معاناتها، آمالها وأحلامها، تناقضاتها، صراعاتها، تطوراتها وما تحمله من ماضيها، وما تنجزه في حاضرها؛ والمسافات تتسع لا تقاس بأمتار وأميال، بل بعقارب الزمن، بالصوت والصدى، بذبذبات التكنولوجيا ومشاعر الروبوتات المستبدلة بالبشر، برحلة الولادة والموت، بتوقيت الرياح تعتصر السحب بالمطر، وبعدد خطواتنا ونحن نعبر تلك المسافات.
مسافة تنتهي برحيل نهار بارد، وأخرى بزهر ينتظر مقبض يد ، أو بعكازة ترقص تحت المطر، أو كما قال الكاتب في المسافة السادسة:”قوارب كثيرة مهترئة حزينة أهملت على الشاطئ، فجأة داهمتها المعصرات …” ؛ ولا أحد يسأل .