بقلم: *د. عبدالإله فروات*
قد يخطئ البعض في التقدير ويظن أن إصلاح الإدارة المغربية موضوعا مستهلكا، إلا أنه ليس كذلك على الرغم من التراكم المعرفي والتضخم في النقاش الذي عرفه هذا المجال، طالما أن الإدارة ما زالت وستبقى آلية أساسية لتنفيذ برامج الدولة وسياساتها العمومية في شتى المجالات : الاقتصادية والاجتماعية والثقافية… كما تعتبر، أي الإدارة، وسيلة لخدمة متطلبات المواطنين وتلبية حاجياتهم بمختلف أصنافها، انطلاقا من مبادئ ومعايير تدبيرية عالمية وأخرى داخلية يؤطرها الدستور والتشريعات ذات الصلة. لذا كان طبيعيا أن يقدم المغرب منذ استقلاله على بناء وإرساء دعائم الإدارة، مع الحرص على مسايرة تيارات التحديث بالقيام بإصلاحات تروم تأمين نموه الاقتصادي واستقراره السياسي مع ضرورة انفتاحه على محيطه العالمي..
وقد شكلت الإدارة، على الدوام، أحد أبرز الميادين المستهدفة من قبل الإصلاح الذي فرض نفسه نتيجة دوافع خارجية وأخرى داخلية، أملت ضرورة ملحة لعصرنة التسيير الإداري وتحديث المرافق والمؤسسات العمومية، مع التشديد على كون إصلاح الإدارة ما هو إلا حلقة مكملة لباقي الإصلاحات في مجالات أخرى. فالإدارة السليمة والقوية لشؤون البلاد لا تقتصر فقط على السياسات والبرامج المرسومة، وإنما تعتمد بالخصوص على المؤسسات التي تنزلها وتعمل على ترجمتها على أرض الواقع وتسهم في نجاعتها.
إن سياسة الإصلاح الإداري ليست هدفا في حد ذاتها بل هي استجابة لعدة مؤثرات متقلبة باستمرار. فدوافع الإصلاح سواء كانت داخلية أو خارجية لا يمكنها إلا أن تتأثر بمحفزات عالمية، مثل ظاهرة العولمة وما خلفته من قضايا وشبكات من التفاعلات والعلاقات التبادلية توجت بمنظومة من المبادئ والقيم يستحيل العمل بها دون إصلاحات جذرية. حيث تعتبر هذه العناصر من المحركات الخارجية، التي أدت إلى الارتفاع المطرد والمستمر في حجم ووتيرة التبادل بين الدول، الشيء الذي فتح باب الاقتصاد المغربي على مصراعيه أمام تنافسية غير مسبوقة، مما يحتم بالتالي تطويرا مستمرا لكل المقومات الذاتية بما فيها الإدارة العمومية لمسايرة التغيرات المستجدة وللسعي وراء التكيف مع هكذا واقع دولي.
وينبغي أن لا يغيب عن ذهننا معطى أساسي يتجلي في مواكبة المغرب لسياسات المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع الاستجابة لإكراهاتها وتوجيهاتها بضرورة إعادة هيكلة النظام الإداري، حيث دأبت هاتين المنظمتين على ربط منح قروضهما بتطبيق برامج الإصلاح التي تدعو إليها.
كما نستحضر أيضا أن الدوافع الداخلية ، المتمظهرة في التحولات التي عرفها المغرب في مختلف الميادين، أفرزت تطلعات سياسية ومطالب مجتمعية تنادي بمشروع إصلاحي شامل، على خلفية أن الإدارة ظلت تراكم اختلالات بنيوية جوهرية متعددة أهمها: عدم فعالية المساطر، والتسيير الروتيني المتسم بالتماطل في اتخاذ القرارات، إضافة إلى التمركز المفرط لسلطة القرار في قطب العاصمة وضعف مردودية الموارد البشرية وكذا محدودية السياسة التواصلية المقنعة مع المواطنين، ناهيك عن جملة مظاهر القصور في أداء الإدارة من بينها: تضخم أعداد البنايات الإدارية ؛ ضعف جدوى المحاسبة والمساءلة وأداء التفتيش؛ وتفشي الرشوة والزبونية وإهدار المال العام.
وفي هذا السياق، تستوقفنا أهم المراحل التي قطعها ملف الإصلاح، وهي عبارة عن مشاريع طبعت حقبة جديدة من حياة الإدارة المغربية، بدء من تشكيل المغرب للجنة الوطنية للإصلاح سنة 1981 ليعقبها وضع البرنامج الوطني لتحديث وتطوير القدرات التسييرية سنة 1996، لنصل إلى ميثاق حسن التدبير الذي أعلنت عنه ما أطلق عليها حكومة التناوب سنة 1999 ثم انعقاد المناظرة الوطنية الأولى حول الإصلاح الإداري ليتكرس هذا الأخير دستوريا سنة 2011 ويشهد هذا الشوط بلورة برنامج تحديثي 2014-2016 سيتعزز بإقرار مرسوم بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري 2018. وقد توجت هذه الخطوات الإصلاحية بإطلاق الخطة الوطنية لإصلاح الإدارة التي امتدت بين 2018 و2021.
وغني عن البيان أنه بقدر ما ألقت الأزمة العالمية التي أحدثها وباء كوفيد 19 بظلالها على سير الإدارة المغربية بقدر ما تشكل هذه الأزمة فرصة تاريخية للتعجيل بتقييم شامل لفعاليتها ونجاعتها على ضوء النتائج المستخلصة. وموازاة مع ذلك فإن نفس الإدارة تخضع حاليا لاختبار الظرفية الدولية الجارية والمتمثلة في تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وما تمثله من تحد حقيقي يسائل متانة ونجاعة الإدارة المغربية ومدى قدرتها على الصمود في وجه التقلبات الدولية وما تفرضه من إكراهات تستدعي جيلا جديدا من الإصلاحات.
وتأكيدا لما أبرزنا في مستهل هذا المقال، فإن موضوع الإصلاح الإداري يبقى له راهنيته وأهميته القصوى، مادامت الإدارة تشكل الآلية الرئيسية لبلورة السياسة العمومية للدولة والفاعل الأساسي لتنزيلها على أرض الواقع، لجعل خدمة المواطن المحور الرئيسي الذي تقاس به نجاعة خدمات الإدارة، كما أن كفاءة هذا الجهاز تبقى دائما معيارا للحكم على درجة قدرته على الإستجابة للحاجيات والمطالب الحيوية للمواطنين، وبالتبعة قياس مدى قوته على إرساء شروط الاستقرار وتأمين روابط الثقة مع محيطه.
ممتاز يستحق المتابعة