قصة قصيرة:
عمار أبو شعيب
خلال فترة الغَذاء التي لا تتعدى ثلاثين دقيقة، وبعدما أنهكهُن قطف الورود تحت أشعة الشمس الحارقة، لدرجة أن فساتينهن المتعددة الألوان والفضفاضة صارت ملتصقة بأجسادهن الرشيقة التي تفجرت منها ينابيع من العرق والآهات، جلسن القرفصاء على نتوءات أمنا الأرض في مجموعات صغيرة… بادرت كل واحدة منهن إلى فك عقدة رزمتها بخِفة وكانهن يخشين مباغثة عدو يغتصب لقمتهن البسيطة، كانت معظم هاته الرزم تحتوي على قنينة مربى معبأة بالشاي، وكسرة خبز رمادية يابسة وبضعة حبات من الزيتون الأسود، مجموعة واحدة فقط مكونة من ست نسوة تحلقن حول صحن فاصولياء…
تناولتُ كظيمتي، وأفرغت ما تبقى في أحشائها من القهوة الساخنة في فنجان، واتخذت صخرة كمقعد… ارتشفت جرعتين متتاليتين، ثم بدأت أتأمل هذا الحشد من النساء المكافحات في أعالي جبال أطلسنا الحبيب، كانت أكوام الورود تحيط بهن من كل جانب، مما خلق لوحة يعجز عن رسمها الرسام العالمي ليوناردو دافنتشي وفان غوخ وكل قبيلة الرسامين عبر الحقب والأزمان…
دنت مني فتاة يظهر من قدها الممشوق وملامح وجهها الملائكي… أنها تطرق باب ربيعها التاسع عشر أو العشرين، ثم خاطبتني بصوت رخيم:
– تسنت تامازيغت أ خالي؟
– إيه سنغ تامازيغت أ يلّي.
انفرجت أسارير وجهها وبدا كالبدر في تمامه بعدما تأكدت بأنني أتكلم بلسانها. وأتقن لغة قومها.. ولكن ما أثار انتباهي هي تلك الخرق التي كانت تلفها على يديها اللتان تبدوان كَيَدَيْ ملاكم يستعد للنزال… فبادرتها بالسؤال مازحا:
– لماذا تَلُفّين يديك في هاته الخرق البالية… هل أنت مومياء؟!
- ارتسمت ابتسامة بريئة على محيّاها، ولكن عيناها كانت تبدو فيهما مسحة من حزن دفين… وبدون أن تُكلِّف نفسها عناء الجواب، سارعت إلى إزالة تلك اللفافات، فَصُعِقتُ ممّا رأته مقلتاي، كانت أخاديد وجراح لم تندمل بعد تعبر كفها طولا وعرضا، بحيث صارت راحتاها تشبهان أرضا بور تشققت من بخل السماء بغيثها… شمّرت عن ذراعيها لتظهر خرائط الجراح والكلوم التي تمتد من معصمها عابرة السّاعد إلى حدود المرفق ودماء طرية لا زالت تترقرق في ثنايا بعض الخدوش… لاحَظَت دهشتي وتاثُّري فاغرورقت عيناها بالدموع…
ثم مالبِثَ أن اخترق أذناي صراخ “الكابران دّا حماد” المكلف باستغلال طاقة هؤلاء النسوة إلى أقصى حد…
– وا تحركي تخدمي على راسك آ ديك المسخوطة و باراكا من الجمّوع…
هرولت هاته الصبية منسحبة من أمامي وهي تعيد اللفافات إلى مكانها لتلتحق بزميلاتها اللواتي شرعن في القطف مُتَحَمّلات وخزات إبر الأشواك الحادة وهن يرددن أهازيج ومواويل أمازيغية حزينة تختزل مسار حياة المرأة المنسية على صدر مغربنا العميق…