تروي الكاتبة السعودية فاطمة عبد الحميد في روايتها “الأفق الأعلى” (دار مسكيلياني 2022) التي تربو على المئتين وعشرين صفحة، قصّة سليمان وعلاقته بوالدته حمدة وبزوجته نبيلة وبجارته سمر.ثلاث نساء يتحكّمن بحياة هذا الرجل الخمسيني الهادئ السهل الانقياد، فيما الموت يتحكّم بهم جميعاً. فيبدو أن للموت دوره المهم والبارز في هذا النصّ، لكونه الراوي الذي يمسك بخيط السرد كما يمسك بخيط حيوات البشر. ولعل ما يجدر ذكره هو إدراج هذه الرواية في اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الحالية.
الموت راوياً
تختار عبد الحميد أن يفتتح الموت الكلام مستعملاً ضمير المتكلّم المفرد “أنا” قائلاً: “ها أنا وراءك تماماً… أحدّق الآن إلى الجزء الخلفيّ من رأسك وأنت تقرأ هذه الكلمات، فتحلّ بالصبر، ولا تلتفت قبل أن أُنهي ما جئت لقوله”. ويكمل فضاء الرعب الذي تختار عبد الحميد أن تفتتح نصّها به والذي يثيره الراوي، وهو الموت في نفس القارئ في الصفحة التالية، فيقول الموت: “نعم! أنا أسوأ مخاوفك… لن تستطيع منّي إفلاتاً. لأنّني سأكون حينها أضخم نفوذٍ يستولي عليك.” (ص: 7-8).
تختار عبد الحميد أن يكون الموت هو راوي أحداث روايتها وتختار أن تؤطر السرد بحضوره وبكلماته وبتدخله وبتصرفه في أحداث الرواية. فكم من مرة ورد في النص كلام على لسان الموت كمثل: “لا حقيقة سواي…” (ص: 141)، وكم من مرة ورد وقت تصرّف الموت عبر إيراد وقت وفاة إحدى الشخصيات كمثل: “وقت الوفاة: 23:11”. (ص: 73).
يكتشف القارئ مع تطوّر السرد أن الموت ليس فقط مجرد راوٍ ينقل الأحداث ويسردها، على العكس، يتحول الموت في هذا النص من راوٍ إلى كاتب ثانٍ يلوي ذراع الكاتبة ويتحكّم بسير السرد رغماً عنها. يتجسّد الموت بكل جبروته وعظمته عبر تكلّمه بنفسه عن قوّته وسلطته وقدرته على التحكّم بالناس، ونقلهم من هذا العالم السفلي إلى “الأفق الأعلى”، حتّى أنّ الموت ينفي وجود الصدف والاعتباطيّة، فالموت متى أتى شخصاً أتاه هو بالتحديد وما أخطأ وما توانى وما تردّد، فيقول: “لا توجد في الموت أيّ مصادفة، هكذا هو الأمر، فما يأتي إليك، يأتي إليك باسمك شخصيّاً، لكنّ الناس يأبون التصديق” (ص: 212).
صحيح أن الموت يثير في نفس القارئ المهابة والرعب في هذه الرواية، إنّما عندما ينهي القارئ النصّ يجد في نفسه عطشاً إلى المزيد من الأخبار والتفاصيل والفضاءات السرديّة، وكأنّ عبد الحميد قطعت الحبل بقارئها واستعجلت النهاية تماماً كما يفعل الموت. حبّذا لو أغرقت عبد الحميد نصّها بالمزيد من القوّة في الحبكة أو رسّخت من رصف طبقات السرد وسماكة الشخصيّات لتضفي المزيد من الثراء على نصّها.
سليمان الخمسيني
إن الشخصية الرئيسة التي يرافقها السرد هي شخصيّة سليمان الرجل الخمسينيّ الهادئ الكتوم الذي تحكّمت به ثلاث نساء في حياته وأجبرنه على اتّباع آرائهنّ وأوامرهنّ وطرق عيشهنّ. فأوّلاً هناك حمدة والدة سليمان القويّة المتسلّطة التي تجبره على ترك لعب الكرة وصنع بيوت من كبريت وترك رفاقه والزواج من نبيلة التي تكبره بإحدى عشرة سنة. ففيما هو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره يتزوّج سليمان من السيّدة نبيلة ويضطرّ إلى “صنع ما يصنعه الرجال”. من بعد والدته تأتي السيّدة نبيلة، الزوجة المتحكّمة المربّية التي تحكم قبضتها على حياته وتجبره على التصرّف بما يناسبها. فلا يأكل بعد السادسة مساء لأنّها تتبع حمية، ولا يضحك لأنّه يبدو وسيماً وأصغر بعشر سنوات من عمره وهو ما يجعلها تبدو مسنّة، لا يفتح باب شرفة المطبخ، لا يلعب بالكرة ولا بالكبريت… لا ولا وألف لا تمنعه عن عيش حياته وتحوّله إلى تابع لأوامر السيّدة نبيلة التي تؤلّب أبناءه عليه بعض الشيء، عبر كسرها من هيبته أمامهم، بالإشارة عليه كيف يجب أن يعيش حياته كما تراه هي مناسبًا وليس كما يحلو له.
بعد وفاة حمدة والسيدة نبيلة تظهر الجارة سمر التي تجسّد الحبّ والعشق اللذين يعرفهما سليمان للمرّة الأولى في حياته معها.فينقل السرد موقفًا بين سليمان وسمر، يجسّد واقع حياته قبلها: “وجد سليمان أنه بحاجة إلى أن يقول شيئاً يُعرِّف نفسه به، حتّى لو لم يكن مهماً. (…) فاستغرق في سرد تفاصيل عن وقوفه عادةً وحيداً ومرهقاً، في مواجهة امرأتين لا تتركان لرأيه فرصة.” (ص: 45). لكنّ سمر التي تسمع كيف سيطرت المرأتان السابقتان على حياة سليمان، تتجلّى هي الأخرى قويّة بسبب حبّ سليمان لها وضعفه إزاءها، فهو يخشى غضبها ويحرص على إضحاكها والتسرية عنها. تظهر سمر بمظهر المرأة العشيقة المتمرّدة التي تقترب وتبتعد بحسب مزاجها لكنّها تحبّ وتحنو وتخاطر من أجل حبّها.
تجسّد هذه النساء الثلاث نماذج نسائية قوية مسيطرة متمكّنة لكنّها تستمدّ قوّتها من ضعف الرجل، أتراه يكون هذا هو الواقع؟ أتراها المرأة لا يمكن أن تكون قويّة ومتماسكة إلاّ متى اعترى الرجل ضعف؟ ألا يمكن للمرأة أن تكون قويّة مستقلّة شديدة العزيمة حتّى متى كان زوجها قويّ الشخصيّة وقوراً؟
“الأفق الأعلى” هي الرواية الثالثة للكاتبة السعودية فاطمة عبد الحميد بعد روايتيها “حافّة الفضّة” (2013) و” النسوة” (2016)، وتبدو هذه الرواية جيّدة السبك، مكتوبة بأسلوب متماسك، سريعة الوتيرة ذات إطار غريب غير متوقّع خلقه تحوّل الموت إلى راوٍ يتحدث ويتدخل في السرد ويتجسّد لغوياً.