الموروث الثقاقي والتاريخي بسوس سجل في الصدور قبل السطور

*امحمد القاضي

حفاظ أهل سوس لقرون من الزمن على الموروث اللامادي من اللسان الأمازيغي، واللباس التقليدي والرقص الفلكلوري المعبر، والهندسة المعمارية و جل العادات والتقاليد والطقوس والممارسات الأسرية والتوازن الروحي بوعي هوياتي يعبر عن صمود حضارة إستثنائية استطاعت أن تجتاز بنجاح فعل إختبار الزمن.

ما يسجله الباحثون في الميدان الأنتوبولوجي ودراسات المجتمعات والتجمعات البشرية والإثنية في جبال الأطلس هو الوعي بالذات الهوياتية للأفراد كسر استمرار وحفاظ الساكنة على الوجود الكياني في إطار دينامية مجتمعية.

عان المكون الأمازيغي تهميشا سياسيا وثقافيا بالمغرب العميق لفترة ما في إطار منظومة إيديولوجية أحادية إقصائية كادت أن تعصف بالموروث المادي واللامادي لسوس، ويدخل جزء من حضارة أمة في خبر كان، لولا نعمة تنامي الشعور الهوياتي والإعتزاز بالانتماء للأرض والحس المتوارث بالعيش وسط ثقافة مختلفة والوعي بممارسة طقوس حياة مميزة لذى الأجيال السابقة والحالية والإيمان بالتنوع الثقاقي في إطار الوحدة الوطنية.

كما أن الاعتراف الرسمي بالعمق الأمازيغي للمغاربة، إضافة لجو الإنفتاح الذي جاء به العهد الجديد وكرسه دستور 2011، زاد من انخراط كل مكونات المجتمع المغربي في الاعتزاز بالمرجعية الأمازيغية للساكنة كعمق الانتماء، وإطار موحد للبلاد.

من المعلوم أن التاريخ لم يكن دائما منصفا، لأن المؤرخون بشر يتأثرون بما حولهم، ومنهم البعض يجامل أصحاب الحل والعقد، وجزء يتغافل عن وقائع لدافع إيديولوجي أو أغراض أخرى، كما أن طرفا آخر يغرق في وصف الأحداث المركزية، ويغفل الهوامش إلى ما غير ذلك من هفوات القلم واللسان والنوايا.

أخطاء بعض المؤرخين غالبا ما تكون فادحة، كالأخطاء الطبية التي تحدث في الجسد والذاكرة جروح غائرة وتشويهات يصعب علاجها وإخفاء معالمها.

من جهة أخرى، بعيدا عن الأخطاء، وقريبا من الاستيلاب الثقافي الذي عادة ما يقود لإقصاء مكون على حساب الآخر. كما يقول المثل الفرنسي: L’administration conduit l’historien à l’erreur بمعنى الإعجاب والانبهار يقود المؤخر للسقوط في الخطأ.

المتعارف عليه أن التاريخ إنتقائي وإختياري بطبعه وفي جل الأحيان يحكمه الدافع الإيديولوجي أو التعصب الديني. إذ شهد التاريخ العالمي أحداث صغرى ضخمت وأصبحت شبه مقدسة لا يجرأ أحد التشكيك فيها، وتجاوز تأثيرها الرقعة الجغرافية للوقائع، كما هو الحال بالنسبة للمحرقة بالحرب العالمية الثانية.

وهناك أحداث ضخمة قزمت، رغم أنها أثرت بشكل كبير في تاريخ البشرية وسطرت معالم سياسة العالم المعاصر، كما هو الحال بمخلفات المستعمر والمجازر أو الإبادات الجماعية التي أحدثها المحتلون في حق الشعوب الأصلية. ولنا في اكتشاف وتاريخ أمريكا ووعد بلفور عبرة.

كما أن هناك في التاريخ وقائع سقطت تماما من سرديات الأحداث العالمية والوطنية ولا تدرج في المقررات المدرسية، من بينها على سبيل المثال في التاريخ الوطني: المقاومة بالأطلس الصغير الغربي ومعركة أيت عبد الله بالخصوص، وبطولة قائدها المجاهد عبد الله زاكور ومن معه من المداومين، المعروف “بأمغار كوعبلا”، الذي يضاهي نضاله ووعيه القتالي مقاومة عبد الكريم الخطابي بالريف وموحا اوحمو الزياني بالأطلس المتوسط على سبيل المثال.
وتجدر الإشارة، أن معركة أيت عبد الله تعتبر أحد آخر المقاومة الشعبية المسلحة بالقرى الجبلية ضد الإستعمار الفرنسي سنة 1934.

الملتقى الأول لذاكرة المقاومة بالأطلس الصغير الغربي الذي نظم أواخر الشهر الماضي من طرف فعاليات جمعوية محلية بشراكة وتعاون مع المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وبدعم من بعض الفاعلين الاقتصاديبن السوسيين وبعض المجالس المنتخبة وبحضور وازن من أبناء البلدة المغتربين وتنشيط أساتذة أكاديميين على مدى يومين بكل من أيت عبد الله وإداوكنضيف وتافراوت وأملن في تلاحم استثنائي بعد مرور ما يقرب مائة سنة، قرنا من الزمن، منذ آخر المعارك؛ لشاهد على شغف وقدرة الذات السوسيية على اختزان الموروث المحلي كخلية نائمة بدواخل الإنسان المحلي يحملها كدين وواجب تجاه البلدة أينما حل وارتحل، حيث يستيقظ ضميره عند تواجد الظروف الملائمة ونداء الواجب.

سر نجاح الملتقى الأول كامن في طبيعة تضحية الإنسان السوسي وإيمانه بضرورة الحفاظ على الموروث المحلي من أجل الإستمرار كمكون حضاري متميز، سواء تعلق الأمر باللسان، أوالارض، أوالتاريخ أو الثقافة أو العادات، كإحياء “إيض يناير”، وغيرها من المكونات الهوياتية، رغم تربص المتربصين وإهمال بعض الجهات وظهور أصوات متطرفة، أو معادية لإرث عمر لقرون خلت.

حقق الملتقى هدفه الأسمى الذي هو رد الاعتبار لرموز المقاومة، وترسيم الذكرى كتقليد سنوي على غرار باقي الملاحم الوطنية من طرف المندوبية السامية مشكورة، في انتظار إدراجها في المقررات المدرسية، وإعطاء المجاهد عبد الله زاكور مكانته الفضلى وطنيا أمثال الأبطال المقاومين الوطنيين.

كما حقق الملتقى نجاح باهرا بفضل تظافر جهود الجمعيات المنظمة، والجهات الرسمية الممثلة في المندوبية السامية الوصية على القطاع، وبعض المجالس المنتخبة والفاعلين الاقتصاديين والساكنة والحضور الذي تحمل عناء السفر في فترة من السنة يهاجر أهل سوس قراهم للحواضر.

الموروث التاريخي المتمثل في المقاومة بالأطلس الصغير الغربي ومعركة أيت عبد الله وذكرى رموز المقاومة على رأسهم قائد المعارك الحاج عبد الله زاكور، ما هم إلا نمودج مما تختزنه وتحافظ عليه باعتزاز ذاكرة أجيال سوسيين نفض عنهم الملتقى الغبار.

هناك عدة مواريث ثقافية وهوياتية ما تزال تقبع تحث الرماد وتنتظر في صمت من يملك الشجاعة والإرادة الكافية لإخراجهما للوجود. على سبيل المثال لا الحصر، هناك قلاع قديمة بالمغرب العميق، أسوار مدن عتيقة بمدن الجنوب تخليد لتاريخ وحضارات أزمنة عريق، ومخازن جماعية بمعمار وقوانين فريدة ومبتكرة بقرى سوس ذات حمولات تاريخية وحكايات تراثية تختزنها ذاكرة المسنين وأنظمة سقي بعدالة إجتماعية بمزارع الهوامش، ونمط عيش وتقاليد تراثية تنقرض ببطئ وتندثر أمام أعيننا ونواقيس الخطر معلقة تنتظر من يدقها ليصدع صوتها الآذان الصماء. فهل من مذكر؟

وأختم بهذا البيت الشعري المعبر:
أنا لا أشكو ففي الشكوى إنحناء ### وأنا نبض عروقي كبرياء.

*رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله