بقلم *خالد شخمان*
مع كل دخول مدرسي تتناسل الأسئلة عن أزمة التعليم في المغرب، وتبرز معايب المجال التي لا تخطئها عين عامي، فما بالك بعين متخصص .. وهي معايب يفوق وطيسها وطيس ساحات الوغى والمعارك، لأن الأسلحة المستعملة فيها أمضى من حد السيف وأثقل من بارود المدافع.
في كل دخول مدرسي تضيق أسوار المدارس ومحيطاتها بالصراعات والمناوشات التي لا يكون محورها المتعلمون بكل تأكيد .. ففي هذا الدخول تبرز مثالب المنظومة التعليمية/التربوية، وتطفو هموم الانتهازية والمصالح الضيقة على غيرها من الهموم.
يَرُدُّ البعض هذه المشاكل إلى سوء التخطيط والتدبير، والظروف المزرية التي يعمل فيها المدرسون من هزالة أجورٍ وقِدَمِ عُدّةٍ وضُعفِ بِنياتٍ.. ناهيك باعتماد رؤى وتوجهات إصلاحية دخيلة لا تنسجم مع المشاكل الحقيقة التي تعيق تطور منظومتنا التعليمية..
وهي أسباب رغم حيازتها مقدارا مناسبا من الصواب والواقعية إلا أنها لا تبحث عن الحلول بالشكل الذي يجعلها حلولا منسجمة مع مسار وطبيعة المشاكل التي تعترض طريق تطورنا وتقدمنا، مثلما لا تنظر في الإمكانات المتاحة من داخل نماذجنا المعرفية والفكرية والنُظمية والمؤسساتية.
ففي الواقع الغربي مثلا يتأطر مسار البحث عن تحقيق التجانس بين المشاكل والحلول، بمفهوم المصلحة العامة، بما هو مفهوم يتسق مع طبيعة المجتمع والدولة هناك، ويعبر عن نهاية طبيعية لمسار الانتقال من الحالة الطبيعية المتسمة بالصراع والقلق، إلى الحالة المدنية المتميزة بالاستقرار والأمن والسلام.. فهذا الانتقال لا يُخاضُ في الغالب إلا على حساب المصلحة العامة ذاتها، لأن تحول المصالح الخاصة إلى مصلحة عامة إنما يتم بتدبيرٍ من أهل النفوذ المالي والعلمي والإعلامي.. فهو أمر وإن كان في ظاهره يخدم المصلحة عامة، إلا أنه يخفي رؤية تنشد استكمال صرح التَّسَيٌّد على العالم وإحكام القبضة عليه.
والغالب أن انتقال هذه الرؤية إلى مجتمعات أخرى لها مسارها المخصوص، وعدم إخضاع هذه الرؤية للنقد والتمحيص، يحول دون التصدي الدقيق للأعطاب التي تعيق حركة هذه المجتمعات نحو التطور والتألق، سواء كانت هذه الأعطاب تهم المجال التربوي التعليمي أو مجالات أخرى سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية.
وفي حالتنا المغربية، يبرز التناقض وعدم الانسجام بشكل واضح في المجال التعليمي، لأن محاولة التوفيق بين المصالح المتناقضة للقوى المختلفة داخل المجتمع، تصطدم بعدم المقدرة على مداراة الصراعات الخفية بين المصالح الخاصة المتباينة. مما يحول دون استقرار النظام التعليمي وتألقه وتطوره. وهو الأمر الذي يجعل من القطاع التعليمي ومن أسوار مؤسساته، مرتعا لتنامي صراعات القوى المتنفذة حول من يرتفع بمصلحته الخاصة ليجعلها تعبر عن المصلحة العامة.
تَهُمُّ هذه الصراعات العملية التعليمية منذ مراحلها الأولى المتعلقة بتشييد المدارس وتجهيزها إلى تدبير مواردها البشرية وتخطيط خرائطها، وانتهاء بجوانبها البيداغوجية والتربوية من اختيار المناهج وإسناد الأقسام وتوزيع التلاميذ.. ففي هذا الأمر تكون الغلبة دوما لأصحاب المصلحة المقترنة بالقوة، لأن اقتران المصلحة بالشجب والصراخ، يجعل مفهوم المصلحة العامة رديفا لامتلاك السلطة: أيَّ سلطةٍ.
وعلى هذه الاعتبارات، نرى أننا نمتلك بعض المقومات التي بإمكانها أن تجيب عن بعض مشاكلنا التعليمية والتربوية، من صلب نماذجنا المخصوصة بنا. ففي هذا تبرز وزارة الأوقاف ذات مقومات وإمكانيات عالية في حل مشاكلنا من عمق النموذج الإدراكي المتسق مع تربتنا المغربية.. وآية ذلك أن لفلسفة الوقف نموذجها الخاص في تحديد مفهوم المصلحة، بعيدا عن أهل النفوذ والقوة داخل المجتمع. فالمصلحة تحت مظلة الأوقاف تعني “المحافظة على مقصود الشرع” من خلال الاجتهاد المرسل إلى الشرع، الذي عليه أن يبين بالدليل “أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه”. وهو دليل يجعل الفرق بين المصلحتين واضح جلي، لأن تلك المرتبطة بالشرع لا تتدخل فيها مصالح الأشخاص وأهواؤهم الخاصة.. بل إنها مصلحة تتوسل بالدليل الشرعي فقط، وتجعل من التقرب إلى الله وجهة الناس وغاية حركتهم. (قل إن صلاتي ونسكي محياي ومماتي لله رب العالمين ….)
وفلسفة الوقف العامرة بالأجوبة لمشاكلنا في التعليم وفي غيره من المجالات، لا تتوقف، كما يتوهم البعض، على التعبد المحض فقط، بل إنها تتجاوز ذلك إلى كل ما فيه الصلاح والمنفعة.. فيكون بذلك التعبد الحق هو الذي يلامس كل مجالات الإصلاح التي تقرب إلى الله. فبالوقف يمكن تشييد العمران وبناء الإنسان، وبه يمكن مواكبة المشاريع التعليمية والعناية بها و بالعاملين عليها.. فلقد كانت المساجد والجوامع والمدارس تشكل دوما محضنا علميا وتربويا يسد الفجوات والثغرات التي تبرز داخل المجتمع.
إن عودة التعليم لمحضنه المنسجم مع مسار تطوره؛ أي لمنظومة الأوقاف سيجعل منه مجالا ديناميا متحركا بنفس حركية ودينامية الوقف في المغرب: فالحركية التي يعرفها الحقل الديني (وبخاصة المساجد ومدارس التعليم العتيق) تتوزع على مستويين اثنين: المستوى الأول يهم حركية العمران (بناءً وتشييدا وتطوعا وإحسانا) والمستوى الثاني يهم حركية الانسان (احتضانا ومواكبة وإنفاقا).. وهو الأمر الذي من شأنه أن ينقل المدرسة من عزلتها ومن أزماتها المادية والبشرية والهوياتية والقيمية، إلى مدرسة نابعة من عمق محيطها ومحتضنَةٌ من أبنائها. ناهيك بأنها ستصير مدرسة بلا صراعات نقابية أو حزبية أو مصلحية ضيقة لأن غطاءها الوقفي لا يسمح في منطلقاته ورؤيته وغاياته ببروز صراعات ومناوشات من هذا القبيل.
إن دعوتنا للرجوع إلى أصولنا في التفكير والتدبير والتنظيم، لا يعني بالمطلق، غلق المنافذ على التجارب المقارنة في مجال التعليم، مثلما لا يمكن أن يعني انفتاحنا على هذه التجارب، خلاص منظومتنا التعليمية من أزماتها.. بل إن ما نقصده من طرحنا، هو توليف تجارب الآخرين مع مقومات قوتنا، توليفا من شأنه تجنيبنا السقوط في شَرَكِ منهج “تجربة خطأ” الذي يسقطنا، في كل مرة نكون مجبرين لاستيراد عَتادِ وعُدَّةِ الآخرين بعيدا عن عَتادنا وعُدتنا.
وقبل كل هذا وبعده، نقدر أن فلسفة الأوقاف، ستعيد للتعليم بعده العقدي المقدس، لأنها سترفع درس القراءة والتعليم عند المتعلمين إلى مصاف ودرجة التعبد العقدي الذي يجعل التحصيل بابا من أبواب معرفة الله وحسن تدبر سننه وتسخير خيراته. ناهيك بأن الأوقاف ستحول دون استمرار هذه العزلة والتباعد بين مؤسساتها التي تهتم بالتربية والتعليم وبين باقي المؤسسات التعليمية الأخرى.