درر رمضانية..المجلس الثالث والعشرين: ‏لعلكم تتفكرون

محمد جناي

الحمد لله علام الغيوب، والصلاة والسلام على من كان إذا وعظ ذرفت العيون، ووجلت القلوب ، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا خير صحب لأشرف مصحوب.

فإن في آيات الله الكونية عظة وعبرة، فالهلال يُرى صغيرا ثم يكبر تدريجيا، حتى يكتمل بدرا منيرا، ثم يبدأ رحلة التلاشي شيئا فشيئا، حتى يرى صغيرا كما بدأ، ثم يختفي في نهاية الشهر.

وهكذا حال الإنسان؛ ينشأ جنينا، وينمو مع مرور الوقت حتى يبلغ أواسِط العُمرِ، فتشتد قوته وتبلغ كمالها، ثم يبدأ رحلة العودة، فتضعف قوته وتَهِنُ عظامه حتى يبلغ أرذل العمر، فلا يعلم من بعد علم شيئا، أو يخطفه الموت قبل ذلك فيغدو أثرا بعد عين.

وهكذا تدور الحياة، كالنبات يكون بذرة في الأرض مخفية ، ثم تنمو بمرور الزمان حتى تغدو شجرة مثمرة مخضرة، ثم لا تلبث أوراقها أن تذبل وتصفر، ثم تصبح فُتاتا تُشتتها الرياح.

كما قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ اَ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪ا كَمَآءٍ اَنزَلْنَٰهُ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ اُ۬لَارْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماٗ تَذْرُوهُ اُ۬لرِّيَٰحُۖ وَكَانَ اَ۬للَّهُ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ مُّقْتَدِراًۖ } [الكهف: 44].

وقال الله عز وجل :{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اَ۬للَّهَ أَنزَلَ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِے اِ۬لَارْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِۦ زَرْعاٗ مُّخْتَلِفاً اَلْوَٰنُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَر۪يٰهُ مُصْفَرّاٗ ثُمَّ يَجْعَلُهُۥ حُطَٰماًۖ اِنَّ فِے ذَٰلِكَ لَذِكْر۪يٰ لِأُوْلِے اِ۬لَالْبَٰبِۖ} [الزمر: 20].

وإذا كان الأمر كذلك فإن العاقل يستيقظ من غفلته، ويتذكر سائلا نفسه: فيم التشبت بها وهي فانية؟! وعلام الركض وراء حُطامِها وهي سراب زائل؟!

يقول الله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

أي: لقوم يتفكرون فيعتبرون، فلا يغترون بالدنيا الفانية.

ثم قال الله تعالى عَقِبَ ذلك :{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[يونس: 25].

فالله يدعو عباده إلى دخول جنته السالمة من جميع المساوئ، فاطلبوها بطاعته ولا تطلبوا الدنيا وزينتها؛ فإنها مليئة بالنًّكبات، ومصيرُها إلى زوال.

واستمع إلى قول الله:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
[الحديد: 20].

ما الحياة الدنيا بما فيها من لذَّاتِِ وشهوات إلا متاع يتمتع به الناس زمنا قليلا، وهي مجرد متعة فانية تخدع صاحبها ؛ فلا ينبغي لعاقل أن يركن إليها.

قال الله تعالى :{ وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
[القصص: 60].

وفي صحيح مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟)).

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال:(( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).

كن في الدنيا كأنك غريب قدم بلدا لا مسكن له فيه يؤويه، ولا ساكن يسليه، خال عن الأهل والعيال وما يشغله عن الخالق.

أو كن كالذي خرج مسافرا يمر بالبلاد غير متوقف فيها إلا ليتزود منها؛ فعابر السبيل أشد زهدا في مغريات طريقه من الغريب، لأن الغريب قد يسكن في بلاد الغربة ويقيم فيها، بخلاف عابر السبيل، وبينه وبين بلده مسافات شاسعة، وهو في حالة تخفف دائمة من كل ما يعوقه أو يؤخره عن بلوغ مقصده. وقيل : إن ((أو)) بمعنى ((بلْ))، أي : بل كن كأنك عابر سبيل، وهو ارتفاع به إلى منزلة أعلى في الزهد من منزلة الغريب.

والمراد: أن على المؤمن أن يستحضر في قلبه دائما حالة الغريب أو المسافر في تعامله مع شهوات الدنيا ومتطلباتها؛ ليصل بذلك إلى آخرته.

وقد تعلم ابن عمر رضي الله عنهما هذا الدرس ووعاه جيدا، فكان يقول لنفسه ولغيره: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)؛ فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح بألا تؤخر عملا من الطاعات إلى الصباح؛ فربما تكون من أهل القبور قبل ذلك، وإذا أصبحت فلا تؤخر عمل الخير إلى المساء؛ فقد يعالجك الموت، واغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها المرض، واغتنم حياتك في الدنيا ، فاجمع فيها ما ينفعك بعد موتك.

وثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال : قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الكلمات لأصحابه:(( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهَوِّنُ به علينا مصيبات الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارٍثَ منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)).

فقوله:((ولا تجعل مصيبتنا في ديننا))، أي: لا تصبنا بنقص في ديننا من اعتقاد سوء، أو أكل حرام، أو فترة وكسل في العبادة وغير ذلك من المعاصي المهلكات، والمصيبة في الدين هي المصيبة الحقيقية؛ لأنه إذا بقي دين المرء فما فاته من الدنيا شيء، وإذا ضاع دينه لم يفز بشيء.

وقوله:((ولا تجعل الدنيا أكبر همنا))، أي: لا تجعل أعظم ما نقصده ونهتم به ونحزن من أجله هو أمور الدنيا، فننشغل بها، وتلهينا عن العبادة والطاعة.

وقوله:((ولا مبلغ علمنا))، أي: لايكون علمنا كله هو التفكر في شؤون الدنيا؛ وننسى الآخرة.

وتذكر أن أيام الإنسان في الدنيا مثل أوراق الشجر، كلما سقطت ورقة ذهب يوم، وهذا اليوم لايعود أبدا، حتى يقترب الأجل، وتسقط بقية أوراق العمر، ثم تنتهي الحياة، مثل هلال رمضان، حالما ينقضي الشهر!

{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
[ القصص: 88].

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٖ * وَيَبْق۪يٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اُ۬لْجَلَٰلِ وَالِاكْرَامِۖ } [الرحمن: 24-25].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.