بقلم *المصطفى كليتي*
انطفأت شمعة عائشة الشنا يوم الأحد 25/ 9/ 2022 عن عمر يناهز 81 سنة، إنسانة رائعة ومناضلة حقوقية وأم بقلب كبير يسع العالم ، بعدما سلخت أكثر من نصف عمرها في الأعمال الخيرية والإحسانية ، لم تولد الطفلة عائشة وفي فمها معلقة من ذهب ، وهي المنتمية لأسرة من عامة الشعب ، وقد درجت على البساطة وضيق ذات اليد وشظف العيش ، فقدت والدها في سن الثالثة ، وهربت من مدينتها الأصلية مراكش بتحريض ومساعدة من إحدى القريبات عبر حافلة نقلتها لمدينة الدار البيضاء ، حيث احتضنتها ، بتوصية من والدتها التي كانت مصرة على تعليمها ، وإخراجها من نفق الجهل إلى أضواء المعرفة ، وهي يتيمة الأب ومشاعر الأسى تملأ ـ على الدوام ـ وجدانها ، ولعل الإحساس بألم اليتم والحرمان والفقدان ، غرس في أعماقهاالإستعداد على تمثل مآسي المحرومين والعمل على تقديم أية مساعدة تدخل دفء الفرح لقلوبهـــــم المكلـــــومــــــة.
في غضون الستينيات ، التحقت بالمدرسة الوطنية للتمريض حيث ارتبطت بالمهنة وزاولتها وظيفيا وجمعويا ، وتمرست وانشغلت بالعمل الإجتماعي ، واحتكت بالمساعدة الإجتماعية الفرنسية “جان ماري تانتوري ” حيث استفادت من تجارب ميدانية ، وبأحداث ووقائع درامية ، أثرت على نفسيتها الشفافة ، وقلبها المرهف ، ولاسيما مشهد مثير هز وجدانهاوكيانها وهي ترى فتاة شابة ، لما تزال في مقتبل العمر تتخلى عن رضيعا بكيفية حادة، فعمدت إلى نزع ثديها والصبى منهمك في الرضاعة حتى طاش الحليب ليغمر وجهه ، ومضت الأم تاركة الولد الصغير يملا العالم وعوعة وصراخا ، وبكاء هذا الطفل ظلت عائشة تسمعه مستفزا في قلبها مشاعر الأمومة الفياضة ، وانتهت إلى قرار عقدته مع نفسها ، على أن تدافع وترافع عن الأمهات العازبات ،وانفتحت على أعمال تطوعية في جمعيات مختلفة كجمعة مكافحة داء السل وعصبة حماية الطفل والتربية الصحية وانخرطت في ممارسة كل عمل يرتبط بالمرأة والطفل لكي تخفف حسب قدرتها وإمكانياتها أشكال الآلام والمعاناة وانتهى بها الأمر إلى إنشاء جمعية ” التضامن النسوي ” لتكون آلية لخدمة المعذبين في الأرض وزرع الأمل في قوبهم المنكسرة،والإبتسامة لشفافهم التي يبستها وشققتها الجراح والأحزان .
سعت “الأم عائشة ” أو تريزا المغرب كما توصف وتنعث، إلى التدخل لإنقاذ الأمهات العازبات من الضياع وإخراجهن من شراسة الشارع والعيش في جحيم العزلة والتهميش القاتلين ، فرارا من ردود فعل المجتمع العنيفة ، فعمدت إلى زيارة العائلات وإعادة النساء المغتصبات أو التي سقطن بمحض رغبتهن أو قلة حيلتهن في علاقات عابرة أدت إلى حمل خارج العلاقات الشرعية ، فقد حفزت الأم عائشة على الزواج، وكم كانت تتواصل مع العائلات من أجل إرجاع الفتيات المغرر بهن إلى حضن عائلاتهن ،أو تزويجهن ، وكانت من المناصرات لتزويج الشباب ،وتؤكد دوما بأنها ضد عمليات الإجهاض التي تذهب ضحياتها العديد من الفتيات القاصرات وهن يخضعهن لعمليات تتم في منتهى السرية والطرق الملتوية ، مما يعرض حياتهن للخطر الماحق.
وصرحت عائشة الشنا على ضرورة إدخال مادة التربية الجنسية في التعليم العمومي ، لأن التوعية والتثقيف في هذا المجال الحساس على درجة قصوى من النجاعة والأهمية ، بدل أن يبقى الحديث عن التربية الجنسية من باب العيب والحشمة وخرق ما دأب عليه المجتمع من عادات وتقاليد وأعراف ، قالت في إحدى تصريحاتها ” أنا لست مع الإجهاض بل مع التربية الجنسية”
وتعرضت لحملة من الإنتقادات والمضايقات وصلت إلى حد تهديد عائشة الشنا بالتصفية الجسدية ، بدعوى أنها تشجع على الفاحشة وإقامة العلاقات لا شرعية التي ينبذها المجتمع ، الأمر الذي جعلهاتصدم بهذه الحملة التي استهدفتها وبخست من عملها الإنساني رغم كونها مشبعة بالقناعات الأخلاقية التي يفرضها الدين الإسلامي ، فقررت النكوص على هذا العمل الإنساني ، بيد أن فعاليات نسائية وحقوقية آزرتها في محنتها وهيجان ردود الفعل يكاد يعصف بها ، حتى لا تستمر في جميل سعيها وعملها النبيل ، وقد كانت عائشة تعتز لما ترى أثر عملها على الفتيات اللواتي مرررنابمحن وظروف قاسية أبعدتهن كرها عن عائلاتهن ومحيطهن ، لتنخرطن في جمعية التضامن النسائي وقد تعلمن القراءة والكتابة والحساب أو تمهرن في حرفة من الحرف المدرة للدخل ، وتسعد بكونهن ، دخلنا كسيرات منحنيات الرأس وخرجنامن الجمعية الحاضنة رافعات الرأس بعلم ومعرفة وحرفة وثقة في الذات مؤهلات لخدمة مجتمعهن .
عائشة الشنا ، بخطابها البسيط وتلقائيتها في الكلام، وهي المرأة والأم التي عاركت وخبرت الحياة تحث نزيلات جمعيتها على التحصين المعرفي والتسلح بالوعي والنضج لتفادي السقوط في الإحباط ونقمة المجتمع الذي لايرحم الضعفاء ، فقد كانت شخصية مبهرة وجذابة ، حظيت بمكانة اعتبارية رفيعة ، وانتزعت عن جدارة واستحقاق ميداليات النجاح والظفر على درجة كبيرة ، مما جعلها تتبوأ مكانة عالية محليا ودوليا، نالت جائزة ” أوبيس ” للعمل الإنساني ، كما حضيت بوسام الشرف للملك محمد السادس ووسام جوقة الشرف من درجة فارس للجمهورية الفرنسية .
لم تألو الأم عائشة جهدا ونضالا ، كانت ملتزمة بصدق عن قضايا المرأة والطفل داخل المجتع ، متحملة رغم مرضها والسرطان يهدم ويقوض صحتها وتبقى ـ دوما ـ مصرة على العمل والسهر على تحسين أوضاع كل من يطرق بابها أو تسعى هي نفسها للبحث عن كل فتاة خذلتها أحلامها لكي تخفف من بلوها وماتعيشه من ضغوط نفسية واجتماعية قد تؤدي بها لأوخم العواقب .
وذات فرصة لقاء قالت عائشة الشنا للباحثة الشهيرة واللامعة فاطمة المرنيسي
عائشة : ـ كم أرغب في أن تكون لدي موهبتك .
فأجابت المرنيسي “ـ لديك السيدة الشنا أكثر من موهبة في فن تطويع والتحكم في الكلام ، إنك تتقنين فنا خشنا وصعب المراس ، هوفن قول الحقيقة العارية ”
بصدقها الإنساني العميق وعملها الدؤوب في تخيف آلام المكروب ومسح دمعة اليتيم المحروم، سعت عائشة بقلبها الكبير بأن تكون أما للجميع ولا تذكر إلا بالخير وحسن الصنيع.
*كاتب وفاعل مدني