بقلم: *ذ. محمد جناي*
يقسِّم الفقه التقليدي وظائف الدولة إلى ثلاث، جاعلا من هذا التقسيم الثلاثي أساسا أو معيارا لتوزيع السلطة، فقامت هيئة مختصة بالتشريع سميت “السلطة التشريعية” ، وهيئة مختصة بوظيفة التنفيذ سميت “السلطة التنفيذية” ، وهيئة ثالثة تقوم بوظائف القضاء تسمى “السلطة القضائية” ، فارتبط هذا التقسيم الثلاثي لوظائف الدولة بفكرة الفصل بين السلطات ؛ فظهور المبادئ الديموقراطية، وقيام الدعوة إلى الحد من سلطات الحكام ومنعهم من الاستبداد بحقوق المحكومين و المناداة بحقوق الأفراد وحرياتهم، كل ذلك، أدى إلى ظهور ما عرف باسم “مبدأ الفصل بين السلطات” الذي قصد به الحد من السلطة والحيلولة دون تحولها إلى سلطة استبدادية.
ويعتبر “مونتسكيو” الفرنسي في كتابه “روح القوانين” في القرن القرن الثامن عشر ، هو الذي جاء بفكرة “الفصل بين السلطات” كضمانة وضعية (مصل واق) لعدم تدلي القائمين على السلطة إلى الاستبداد، وهذه الفكرة صورها ” مونتسكيو ” من ثنايا ملاحظته لواقع عصره – واقع النظامين الفرنسي والإنجليزي آنذاك- ، فلقد أبرم ” مونتسكيو ” مقارنة بين واقع هذين النظامين فلاحظ أن الشعب الإنجليزي ينعم بالحريات بينما الشعب الفرنسي ليس كذلك، ووجد أن العامل المتغير من وراء هذا التباين يكمن في فكرة الفصل بين السلطات، حيث يقوم النظام الإنجليزي على تلك الفكرة ( فالملك يقوم على سلطة التنفيذ ، والبرلمان يقوم على سلطة التشريع)، ذلك بينما يقوم الملك وحده في النظام الفرنسي على سلطتي التشريع والتنفيذ معا، ولقد انتهى “مونتسكيو” في هذا الشأن إلى حقائق علمية قوامها: ” أنه ما من إنسان يتولى السلطة إلا ويتدلى بها إلى الاستبداد، وأن السلطة قوة، وأنه لا يوقف القوة إلا القوة”.
تتلخص الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مبدأ الفصل بين السلطات في ضرورة توزيع وظائف الحكم الرئيسية : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، على هيئات منفصلة ومتساوية ، تستقل كل منها عن الأخرى في مباشرة وظيفتها، حتى لا تتركز السلطة في يد واحدة فتسيء استعمالها، وتستبد بالمحكومين استبدادا ينتهي بالقضاء على حياة الأفراد وحقوقهم.
غير أن خلافا كبيرا نشأ بين فقهاء القانون العام حول مفهوم أو مدلول مبدأ الفصل بين السلطات ، فبعضهم فهمه على أنه يعني الفصل المطلق بين السلطات ، وأن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق غاية المبدأ الأساسية في منع التعسف والاستبداد بالسلطة ، وهذا التفسير – على الرغم من خطئه – ذاع وانتشر زمانا غير قصير ، وساد وطبق في غير قليل من الدساتير، إلا أن الأغلبية العظمى من الفقهاء قد فهمت المبدأ على نحو آخر ، وهو أنه يعني الفصل المرن أو النسبي ، أي فصلا مع التوازن والتعاون بين السلطات ، وهذا هو التفسير الصحيح والسليم لذلك المبدأ ، والذي يأخذ به اليوم أساتذة فقه القانون العام.
فذهب معظم فقهاء القانون العام إلى أن المفهوم الصحيح لمبدأ فصل السلطات – كما تصوره مونتسكيو – هو الفصل المتوازن بين السلطات العامة الثلاث في الدولة ، مع قيام قدر من التعاون فيما بينها ، لتنفيذ وظائفها في توافق وانسجام، ووجود رقابة متبادلة بينها لضمان وقوف كل سلطة عند حدودها ، من دون أن تجاوزها أو تعتدي على سلطة أخرى.
و تقوم فكرة الفصل النسبي أو المرن بين السلطات العامة على أساس أن ” سلطة الدولة تمثل وحدة لا تتجزأ ” ، غير أن للدولة وظائف ثلاث هي الوظيفة التشريعية والوظيفية التنفيذية والوظيفة القضائية ، وهذه الوظائف الثلاث يجب أن توزع على هيئات ثلاث ، بحيث تكون هناك هيئة تختص بممارسة التشريع ، وهيئة تختص بممارسة أمور التنفيذ، وهيئة تباشر الوظيفة القضائية.
غير أن تلك الهيئات عندما تباشر تلك الوظائف لا تباشرها بوصفها سلطات منفصلة يمثل كل منها جانبا من جوانب السيادة ، بل بوصفها مجموعة من الاختصاصات تصدر من سلطة موحدة هي سلطة الدولة ، وهذه الاختصاصات لا يمكن الفصل بينها فصلا مطلقا لسببين:
الأول : أن هذه الاختصاصات جميعا إنما تمارس لأجل تحقيق الصالح العام ، وبناء عليه فإنه يجب أن يقوم تعاون وتنسيق بين الهيئات التي تباشرها، وذلك لأجل تحقيق تلك الغاية.
الثاني: أن هذه الاختصاصات يتداخل بعضها مع بعضها الآخر إلى درجة لا تسمح بالفصل بينها فصلا مطلقا، وبناء عليه يجب أن تكون هناك درجة معينة من المشاركة في ممارستها بين الهيئات العامة المختلفة، شريطة ألا تؤدي تلك المشاركة إلى إلغاء الفواصل القائمة بينها، أو تركيز السلطة في يد واحدة منها.
ومن ثم فإن هذا المبدأ ليس معناه إقامة سياج مادي يفصل فصلا تاما بين سلطات الحكم ، ويحول دون مباشرة كل منها لوظيفتها بحجة المساس بالآخرى ، ومن ثم فإن مقتضى مبدأ الفصل بين السلطات أن يكون بين السلطات الثلاث تعاون ، وأن يكون لكل منها رقابة على الأخرى، في نطاق اختصاصها بحيث يكون نظام الحكم قائما على أساس أن ” السلطة تحد أو توقف السلطة ” ، فيؤدي ذلك إلى تحقيق حريات الأفراد ، وضمان حقوقهم، واحترام القوانين وحسن تطبيقها تطبيقا عادلا وسليما، فهذا ما يتفق وحكمة الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات التي هي تحقيق التوازن والتعاون بين السلطات، وتوفير الحيدة لكل منها في مجال اختصاصها.
لهذا لم تعمر فكرة الفصل المطلق بين السلطات طويلا ، وذلك لتعارضها مع وحدة السلطة في الدولة ، فالسلطات العامة في الدولة هي في الحقيقة جملة اختصاصات ترتد جميعا إلى أصل واحد ، ومن ثم لا يمكن ممارستها بطريقة استقلالية كلا منها عن الأخرى ، بل يلزم أن تقوم بين الهيئات التي تمارسها علاقات تعاون وتداخل، تنسق بينها، وتوجه نشاطها جميعا إلى الهدف المشترك؛ لذلك كانت النظرية التي سادت إبان الثورة الفرنسية ، والتي نادت بالفصل المطلق بين السلطات ، نظرية قصيرة العمر ، سرعان ما هجرت واستعيض عنها بمبدأ الفصل النسبي أو المرن بين السلطات.
فعدلت أنظمة الدول الليبرالية عن فكرة الفصل المطلق بين السلطات كونها تمثل نظاما خياليا لا يمكن أن يتم له التطبيق في العمل ، وانتهجت التفسير الصحيح للمبدأ ، والمتمثل في فكرة الفصل النسبي المرن، فهذه الفكرة هي التي أمكن تطبيقها على صعيد الواقع، كما أنها هي الفكرة السائدة في الفقه القانوني المعاصر ، وعلى أساسها يجري تصنيف الأنظمة النيابية في الدول الديموقراطية الليبرالية.
وأما الدساتير العربية فمعظمها، اعترفت بمبدأ الفصل بين السلطات في صورته التي تقوم على الفصل النسبي المرن ، وذلك حينما استعملت اصطلاح ” السلطات” ، وخصصت لكل منها فصلا أو بابا مستقلا، فنص دستور المملكة المغربية الصادر في 30 يوليوز سنة 2011 في الفصل الأول منه على أن : ” نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية، يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها،…”.
وعلى ذلك ، فإن المسوغات التي أدت إلى الأخذ بهذا المبدأ وتطبيقه تتلخص في الآتي:
أولا : منع الاستبداد وصيانة الحريات
وقد عبر ” ماديسون ” عن هذا المسوغ بوضوح في كتاب ” الفدراليست ” إذ يقول : ( إن تجمع ” تكدس” السلطات كلها ، التشريعية والتنفيذية والقضائية في يد واحدة ، سواء كانت تلك اليد هي يد حاكم فرد أو مجموعة من الحكام ، وسواء وصل أولئك الحكام إلى مناصبهم بالوراثة أو بالانتخابات أو بفرض أنفسهم على المجموع ، هذا التجمع الخطير هو أخص خصائص الاستبداد ، بل هو الاستبداد بعينه).
وهذه الحقيقة غير خافية على أحد ، فطبيعة النفس البشرية أثبتت عبر القرون ، ومن خلال التجارب المستمرة ، أنها تجنح إلى الاستبداد إذا ما استأثرت بالسلطة، وتنزع إلى إساءة استعمالها، وقد عبر عن ذلك اللورد آكتون( 1902 – 1834) أحد كبار السياسة والمؤرخين البريطانيين السالفين بقوله إن : ” كل سلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة “.
وإذا كان الجميع متفق على أن السلطة ذات طبيعة عدوانية جشعة ، وأنه يتوجب بالتالي تقييدها كيلا تتجاوز الحدود المقررة لها ، فإن الطريقة المثلى لمجابهة هذا الخطر تنحصر في توزيع السلطات ، حتى توقف كل سلطة عند حدها بوساطة غيرها بحيث لا تستطيع واحدة أن تسيء استعمال سلطتها أو تستبد بالسلطة.
ثانيا: تأكيد مبدأ المشروعية في الدولة
يعد مبدأ الفصل بين السلطات من ضمن الضمانات المهمة التي تكفل قيام الدولة القانونية ، فهو وسيلة فعالة لكفالة احترام القوانين وتطبيقها تطبيقا عادلا وسليما، وهذا ما عبر عنه مونتسكيو بقوله :” إذا اجتمعت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد ، أو تركزت في هيئة واحدة ، فلن تكون هناك حرية ، لأنه يخشى في هذه الحالة أن يقوم ذلك الشخص أو تلك الهيئة ( الحاكم نفسه أو مجلس الشيوخ ) بسن قوانين استبدادية جائرة، وتنفيذها بطريقة ظالمة.
وينطبق هذا القول تماما على حالة الجمع بين سلطتي التشريع والقضاء ، أو الجمع بين التنفيذ والقضاء، لأن من شأن هذا الجمع أن يحول القاضي إلى طاغية ، وهو ما أشار إليه مونتسكيو بقوله :” مرة أخرى ، لن تكون هناك حرية ، إذا لم تكن السلطة القضائية منفصلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، لأنها إذا كانت متحدة أو مجتمعة مع السلطة التشريعية، فإن حياة المواطن وحريته تصبحان عرضة للتحكم والسيطرة الاستبدادية، لأن القاضي في مثل هذه الحالة سيكون هو مشرع القانون ، وإذا كانت السلطة القضائية متحدة أو مجتمعة مع السلطة التنفيذية، فإن القاضي قد يتصرف بعنف وقسوة ، ويمارس الظلم والاضطهاد”.
ثالثا: تحقيق الفوائد المترتبة على مبدأ تقسيم العمل
يتفق مبدأ الفصل بين السلطات مع مبدأ إداري مهم ، ويعد تطبيقا سليما له ، ألا وهو ” مبدأ التخصص وتقسيم العمل ” الذي أصبحت تسير عليه المشروعات الناجحة كافة ، وإذا كان ذلك المبدأ يطبق في كافة المشروعات العامة والخاصة على حد سواء، ويعد شرطا أساسيا من شروط نجاحها، فإنه من باب أولى واجب التطبيق على الدولة ، لكونها أكبر الأنشطة حجما، وأكثرها أهمية ، وأشدها تنوعا ، وبالتالي أحوجها إلى التخصص وتقسيم العمل.
ونخلص مما سبق إلى القول ، إن مبدأ الفصل بين السلطات يظل من أنجع الوسائل التي تكفل الحرية ، لأنه يهيئ جوا من الاعتدال في شؤون الحكم ، وهذا الجو هو الذي يمكن أن ” تتفتح فيه وتنمو زهرة الحرية “.
* خريج جامعة القرويين، موظف إطار (متصرف تربوي) بوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بالقنيطرة
هوامش :
(1): النظم السياسية المقارنة ، تأليف الدكتور حسن مصطفى البحري ، إصدارات جامعة الشام الخاصة ، كلية العلاقات الدولية والدبلوماسية ، العام الدراسي 2020/2021.
(2): النظم السياسية – دراسة للنماذج الرئيسية الحديثة ونظم الحكم في البلدان العربية وللنظام السياسي الإسلامي- ، تأليف الدكتور عادل ثابت،دار الجامعة الجديدة ،الإسكندرية، 2007.