*الأستاذ رشيد آيت بلعربي
دائما ما كانت تشكل المحاماة درعا واقيا لحقوق و حريات المواطنين في مواجهة أي اعتداء يطالها أو يتهددها سواء كان صادرا عن أشخاص القانون العام أو الخاص. و إذا كانت هاته الصورة هي القاعدة و الأصل الذي طبع مهنة النبلاء وعلى مدى تاريخها العريق سواء على المستوى العالمي أو على المستوى الوطني، فإن الأمر لم يعد بنفس الزخم –على المستوى الوطني على الأقل-بفعل مجموعة من العوامل المحيطة بالمهنة منها ما هو سياسي و ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي و منها ما هو مهني. فمحاماة سبعينيات و ثمانينات القرن الماضي ليست هي محاماة اليوم. و جرأة و شجاعة النقيب عبد الرحمن بنعمرو والأساتذة عبد الرحيم بوعبيد و عبد الرحيم برادة و أحمد بنجلون ليست هي جرأة محاميي اليوم. فبينما وقف هؤلاء أمام المحاكم دفاعا عن المتهمين بالانقلاب على الحسن الثاني علانية وأدوا دورهم بشجاعة متناهية ، لم يعد بعض محاميي هذا الزمن قادرين حتى على النيابة في مواجهة شرطي أو دركي. و بهذا فقدت المحاماة بريقها و هيبتها وقوتها بل أصبحت لقمة سائغة في كثير من المحطات. لكن ذلك لم يأت من فراغ بل نتيجة تراكمات سلبية مرتبطة بعوامل عديدة .
و إذا كانت العوامل الخارجية كثيرة وتعود في جزء كبير منها إلى سياسة الدولة تجاه المحامين و المحاماة بشكل عام و هو ما يتجلى في مجموعة من الإشارات السلبية في السنوات الأخيرة (إغراق المهنة بأفواج متتالية من المحامين ، الضريبة ، محاكمات تعسفية و غيرها)، فإن العوامل الداخلية تبقى أكبر مشكل تعانيه المهنة و في مقدمتها :
1-ضعف المؤسسات المهنية: إن أكبر تجليات هذا الضعف هو كون المؤسسات المشرفة على تدبير الشأن المهني أصبحت عاجزة عن بلورة أفكار واقعية لحماية المهنة من مجموعة من المظاهر السلبية. حيث نحت نحو تغليب مصلحة المحامي الفرد على مصلحة المحامين والمهنة بشكل عام في تعاطيها مع المشاكل التي تطفو على سطح المشهد المهني. و هو ما يظهر بشكل جلي في كيفية تعاملها مع السلوكات المنحرفة والشاذة التي تصدر عن بعض المحامين رغم قلتها. هذا على مستوى الهيئات السبعة عشر.
أما على المستوى الوطني ، فإن تراجع جمعية هيئات المحامين عن الأدوار التيكانت تقوم بها للدفاع عن المحامين والمحاماة و مكانتها وسط المجتمع بشكل عام و داخل منظومة العدالة بشكل خاص، و اكتفائها بتنظيم انتخابات تجديد المكتب كل ثلاث سنوات مع ما يرافق ذلك من طقوس التكريم و الاعتراف بلاشيء، أصبح من المعيقات الرئيسية لأي تطور للمهنة. و ما طريقة تعاطي المكتب المنتهية ولايته مع أزمة جواز التلقيح و أزمة الضريبة ومؤتمر الداخلة و الصمت المخزي على فضائح امتحاني الأهلية الأخيرين الذي سيظل وصمة عار على المكتب المنتهية ولايته إلا خير دليل ذلك . و بالتالي لا بد من التفكير في إيجاد أفكار تنظيمية جديدة لتقوية هياكل المؤسسات المهنية المشرفة على تدبير شؤون المحامين محليا و وطنيا. و هنا أستحضر مقتطفا من الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في الدورة الثانية للمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب المنعقد بالدار البيضاء بتاريخ 20 غشت 2000 والتي شخصت واقع المحاماة في المغرب و قدمت بعض المقترحات الناجعة للنهوض بالمهنة ، حيث ورد فيها:
“و نتيجة لهذه التحديات فإن المحاماة توجد اليوم في موقع دفاع حتى لا تفقد قواعدها و تقاليدها و أعرافها و ثقة من يلجأ إليها. و لن يتسنى رفع تلكم التحديات إلا بالعمل على إصلاح و هيكلة المهنة وفق تنظيم حديث و متطور يحافظ للمحاماة على استقلالها و حريتها و يضمن في نفس الوقت تطورها وتكيفها مع المتطلبات المستجدة”.
2- الإهمال الكبير الذي طال أعراف وتقاليد مهنة المحاماة ، لدرجة أصبحت معه بعضها بمثابة عبء ثقيل على المحامين و أصبح التقيد بها استثناء. والسبب في ذلك هو أننا أهملنا منظومة الأعراف و التقاليد المهنية الحقة واختصرناها في تسبيق ملفات النقيب والنقباء السابقين و الزملاء خارج الهيئة وضرورة تحية بعضنا و رد التحية والإطناب الكبير في تشنيف مسامع المتمرنين بضرورة تقديم أنفسهم لبقية الزملاء و الزميلات، علما أن هناك أعراف و تقاليد أخرى أهم من ذلك بكثير تهم جوهر الممارسة المهنية بشكل عام سواء في علاقة المحامين بمؤسساتهم المهنية أو في علاقة هاته الأخيرة بهم ، و علاقة المحامين ببعضهم بشكل عام سواء داخل الهيئة أو خارجها أو بالهيئات القضائية أو بكتابة الضبط أو غيرها من المؤسسات المرتبطة بمنظومة العدالة ، أو في علاقتهم بموكليهم و كيفية التعامل معهم سواء في مناقشة قضاياهم أو مكان استقبالهم و مدى الأهمية التي تعطى لملفاتهم في البحث والاجتهاد و الاستشارة و في إعداد المذكرات و المرافعات و الطعون وغيرها من المجالات التي تشكل المجال الخصب الذي يرفع من قيمة المحامي و رسالته السامية في الدفاع عن حقوق و حريات المواطنين عوض التقوقع وسط بعض الشكليات المتعلقة بطلب الملفات وتراتبية المحامين. و يبقى أكبر عائق في تمرد المحامين على هاته الأعراف والتقاليد هو تخلي الكبار عنها. فكيف يمكن للمحامي حديث الالتحاق بالمهنة أن يتلقى ملاحظات حول الأعراف و التقاليد المتعلقة بكيفية التعامل مع الزملاء من زميل أقدم منه و هذا الأخير لا يقدم المثال الجيد على ذلك؟ و كيف يمكن للمحامي أن يستمع لخطاب عن الأعراف و التقاليد ممن يفترض فيهم حماية هاته الأعراف و التقاليد عن كيفية التعامل مع الزملاء و الموكلين و حماية السر المهني و هو يرى أن مخاطبه بمجرد دخوله للجلسة يطلب ملفه من رئيس الجلسة دون اعتبار لزميله الذي تأخر قليلا، ويتوجه إلى الكتاب العموميين و ينتظر مع طوابير المنتظرين من أجل كتابة مقالات ومذكرات تتضمن أسرارا لموكليه؟.
3- إهمال الجانب القيمي في المحاماة باعتبارها مهنة حرة و مستقلة و رسالة إنسانية غرضها الأساسي الدفاع عن الحقوق و الحريات و إعلاء قيمة العدل، و في المقابل التركيز الكلي على ما هو مادي حيث أصبحت الرغبة في الاغتناء السريع أمرا مشروعا حتى و لو كان ذلك على حساب الإخلال بواجبات المحامي التي يفرضها قانون المهنة و أعرافها وتقاليدها و قيمها الراسخة. و هنا أستحضر أيضا مقتطفا ثانيا من نفس الرسالة الملكية المشار إليها أعلاه و التي ورد فيها:
“و إن من أكبر المعوقات المهنية الداخلية التي تؤثر سلبا على المحاماة ما يعرفه الواقع من مساس بأخلاقياتها و قيمها وتغليب الاعتبارات المادية على مبادئها الإنسانية السامية و هو ما يؤدي إلى الإخلال بالواجبات التي تفرضها المهنة على المحامي. فهذه الشوائب لا تمس بقدسية مهنة المحاماة فقط بل و تلقي بظلالها السلبية على الحماية القانونية المطلوب توفيرها لعموم المتقاضين . هذه الحماية التي يعد ضمانها جوهر عمل المحامي و رسالته في آن واحد”.
4-تنامي ظاهرتي السمسرة و الوساطة بشكل ملحوظ، و هو ما يعود في المقام الأول لتراكم سنوات من التساهل بل وتوفير الحماية المؤسساتية لمن نهجوا هذا النهج في الممارسة و الغياب الكلي لمؤسسة التأديب التي يتعين أن ينهض بها النقباء و المجالس لدرجة أصبحت إثارة هاتين الظاهرتين في النقاش لا تحرك شعرة واحدة سواء في من يتعاطون هذا النوع من الممارسات أو في المؤسسات المهنية. لكن في مقابل ذلك تولدت فكرة يراها البعض مشروعة ألا وهي فرض التنازل عن نسبة من المبالغ / الأتعاب المتحصلة من أفعال يجرمها القانون لفائدة من يرون أنهم ضحايا هاتين الظاهرتين عوض المطالبة بالتصدي بحزم لهما و اجتثاتهما واجتثات كل من اختارهما منهاجا و سلوكا في الممارسة، و بالتالي فتح الباب لكل الزملاء و الزميلات القادرين على العمل في فضاء يضمن تكافؤ الفرص من أجل ممارسة المهنة بعزة نفس و كرامة ومهنية عوض فرض رسوم جمركية على ممارسة السمسرة و الوساطة لتوزيعها بشكل دوري على الجميع. و هو عمل يزكي و يشرعن الفساد بمختلف صوره لدرجة أصبح من يتعاطى السمسرة يصرح بجرأة زائدة أنه ليس من حق أي كان محاسبته على أفعاله مادام يتنازل عن جزء من أتعابه لفائدة باقي المحامين. و هو كلام قيل في أكثر من مناسبة.
5- تفشي خطاب البؤس و الخطاب الحاط من كرامة المحامين و المحاماة في الأوساط المهنية من خلال الترويج لشيوع بعض الحالات الاجتماعية الاستثنائية و النادرة ( زميل لا يستطيع أداء مبالغ كراء منزله، زميل مهدد بالإفراغ من مكتبه، زميل لم يستطع توفير ثمن بوطا غاز ، زميل لم يستطع شراء كيلو شباكية، زميل لا يستطيع الدخول إلى منزله لأنه لا يجد مالا لشراء لتر من الحليب لأبنائه). أهاته هي المحاماة ؟ أهذا هو شموخها ؟ أهذا هو كبرياء المحامي؟ و هل بالترويج لهذا الخطاب الشعبوي البئيس و المضلل سنصلح حالنا و حال المهنة و نقضي على هاته الحالات وسط المحامين؟ لا ثم ألف لا. إن وجود هاته الحالات ناذر جدا إذ تعد على أصابع اليد الواحدة و ربما أقل. و إذا كانت هناك حالة أو حالتين أو ثلاثة في كل هيئة، فإنه الهيئة لا تتحمل مسؤولية ذلك. فعدم قدرة زميل على أداء السومة الكرائية لمنزله أو مكتبه ليس بسبب المهنة. و الدليل على ذلك أن هناك زملاء له في المهنة أحدث منه في تاريخ الالتحاق و لا يعانون من هذا المشكل. إذن فالخلل في هذا الزميل لأنه هو من لم يستطع إيجاد النسق الصحيح لممارسة المهنة بشكل يكسب به قوت يومه دون السقوط في المحظور، بل ربما أنه مارس المهنة في وقت من الأوقات لكنه لم يستطع الاستمرار في ذلك لتغير الظروف أو لانقشاع بعض الغيوم من حوله. أو لربما اعتاد أن يتنقل من منزل إلى منزل و من مكتب لآخر دون أداء واجبات الكراء كما يحترف ذلك البعض لأنه استطاب مجانية الكراء. و لهذا فإن هذا النوع من الخطابات لن يحل مشاكل هؤلاء بل إنه يضع المهنة في موقف لا يليق بها. فالمحامي يجب أن يظل وفيا في خطابه للغة و عزة و كرامة المحامي و لشموخ المحاماة و كبريائها و عنفوانها.
6- تغييب أهمية التكوين لدى المحامي، و هو الذي أصبح حديث كل المؤسسات. فالرئيس المنتدب للمجلس الأعلى السلطة القضائية مثلا لا يترك مناسبة تمر دون الحديث عن ضعف التكوين لدى المحامين و يقدم كل مرة مثالا بعدد القضايا التي تقضي فيها محكمة النقض بعدم قبول الطلب. و هو أمر و إن كان يثير حفيظة المحامين لكنها الحقيقة التي لا يمكن حجبها. كما أن وزارة العدل في مسودة مشروع قانون المهنة طرحت أيضا مسألة التكوين المستمر الإجباري على المحامين. و هو ما يؤكد أن هناك حاجة ماسة للتكوين. لكن الملاحظ أن نسبة كبيرة من المحامين لا يهمها التكوين و يعتبرونه مجرد مضيعة للوقت. فتجد مثلا عدد المقبلين على رحلة أو متابعة مقابلة لكرة القدم لفريق الهيئة أكثر ممن يحضرون ندوة علمية. بل هناك فئة تتحجج بتفشي بعض الظواهر كالسمسرة و غيرها و تعتبر الإقبال على التكوين دون جدوى. لكن و بكل موضوعية فإذا كانت السمسرة و الوساطة واقعا تعاني منه المهنة فإن السماسرة و الوسطاء لا يحتكرون مائة بالمائة من القضايا. فإذا كان عدد القضايا الرائجة في شعبتي الجنحي سير و المسؤولية التقصيرية مثلا أمام المحكمة الابتدائية بالقنيطرة هو 3000 قضية سنويا في المجموع، فإن ما يسمى بمحتكري ملفات السير لا يتجاوز عدد ملفاتهم مجتمعين 200 ملف أما الباقي فهو موزع على باقي الزملاء والزميلات الذي يمارسون المحاماة بشكل طبيعي و تصلهم هاته الملفات بالطرق العادية و المشروعة. نفس الأمر يقال عن قضايا نزاعات الشغل و قضايا التلبس والجنايات و الأسرة و غيرها. أي أنه إذا كان من يتعاطون السمسرة و الوساطة يحتكرون ما بين 10 و 20 في المائة من الملفات في شعبة معينة فإن 80 في المائة الباقية على الأقل تقتسم بين المحامين الذين يشتغلون وفقا للقانون. علما أن هناك شعب أخرى لا تعرف لا احتكارا و لا سمسرة كما هو الشأن بالنسبة للقضايا المدنية و العقارية والقضايا الإدارية و التجارية و قضايا الجنحي العادي و ملفات الأسرة بالنسبة للزوج على الأقل ، حيث ينوب فيها أغلب المحامين مع بعض التفاوت بينهم و الذي تتحكم فيه ظروف ذاتية و أخرى موضوعية كالمحيط الاجتماعي للمحامي و علاقاته الشخصية و مدى انفتاحه على المجتمع و سمعته و نوعية علاقته مع موكليه و طبيعة خطابه و شخصيته وتكوينه القانوني و غيرها. أي أن المشكل في محدودية فرص العمل لا يعود إلى السمسرة و الاحتكار فقط بل إلى السمعة السيئة أحيانا أو الكسل و الخمول أو انتشار الفكر الاتكالي داخل الممارسة المهنية أو ضعف التكوين أو عدم بدل العناية الكافية بملفات الموكلين. فما نصادفه للأسف في مذكرات و مرافعات بعض الزملاء و الزميلات في ممارستهم يندى له الجبين لا من حيث الشكل و لا من حيث مضمون المذكرة أو المرافعة إذ لا يعقل أن محاميا قضى 20 سنة في ممارسة المهنة و مازال لا يستطيع ضبط شكليات مقال الطعن بالاستئناف أو النقض فينتهي إلى عدم قبوله شكلا أو يقدم الدفوع الشكلية بعد انتهاء مناقشة الموضوع بشكل كلي. وهنا نؤكد على أن التكوين الذاتي للمحامي و تحليه بالرغبة في تطويره قدراته واستغلال وقته فيما هو ثمين يعود عليه بالنفع في ممارسته المهنية ، أصبح أمرا ملحا علما أن المعلومة القانونية أصبحت أكثر سهولة من ذي قبل. في نقرة بسيطة على أي محرك بحث سيجد نفسه أمام دراسات ومقالات و آراء فقهية مختلفة و أمام أحدث الاجتهادات القضائية الوطنية والدولية في كل موضوع. لكن المشكل يكمن في غياب الرغبة و الإرادة في تقوية القدرات الذاتية للمحامي في مجال التكوين.
نعم هذا واقعنا و واقع المحاماة اليوم الذي يتعين الاعتراف به أولا، والتفكير في سبل التمرد عليه ثانيا. فواقع المحاماة لم يعد يتحمل وجود مؤسسات وطنية و محلية مهترئة بعقول فارغة مطبعة مع الفساد مفضلة قضاء مآربها الشخصية على حساب المحاماة والمحامين.
واقع لم يعد يتحمل مزيدا من التساهل مع خرق أعراف و تقاليد المهنة، و لم يعد يتحمل مزيدا من الانحدار القيمي في السلوك والممارسة.كما لم يعد يتحمل مزيدا في التدني في مستوى التكوين.
*عضو هيأة المحامين بالقنيطرة