من منا لا يتذكر هذه الصورة المرعبة التي جابت العالم وقتها، حين التقطها المصور الصحفي الجنوب إفريقي “كيفن كارتر”، أثناء القيام بتحقيق حول المجاعة التي ضربت السودان في أوائل تسعينيات القرن الماضي. بلد السودان منبع نهر النيل العظيم ياحسرة، الذي قيل عنه أنه لوحده قادر أن يغذي إفريقيا لخصبة التربة وتوفر منابع المياه.
الصورة المؤثرة تعبر عن فتاة صغيرة منطوية على بطنها الجائع، بعد أن أنهكها المشي وأرهقتها طول المسافة في طريقها لمخيم الإغاثة الإنسانية الأممي لتلقي الطعام المجاني. وراء الطفلة طائر الصقر يتربص بها وينتظرها أن تسلم الروح ليفتك بلاهوادة بجسدها النحيف أصلا.
لا أحد يعلم مصير الطفلة، لأن المصور اضطر لمغادرة المكان بسرعة لقلة الأمن وانتشار الأوبئة. لكن الصورة فاز صاحبها بالمرتبة الأولى لجائزة “بيلنزر” Prize Pulitzer لتلك السنة. وهي أعلى المراتب التي يتمناها كل مصور صحفي. انتشى المصور “كارتر” باللحظة وتلقى التهاني، لكن ظل ضميره يؤنبه، تألم كثيرا بعدها، لأنه لم يفعل شيئا اللحظة لإنقاذ الطفلة، ودخل في اكتئاب وضغط نفسي وعزلة، وانتحر بعد ثلاث سنوات على الجائزة متأثرا بقوة المشهد.
هنا اسمحوا لي أن أسقط الطائرة، لأضع بعض الأسئلة. كم من صقور الانتخابات يقتاتون من فقر المنتخبين، وتنتفخ بطونهم بعد الفوز بمقعد ريعي لعقود دون أن يراجع موقفه؟، كم من مسؤول ظل بلا حركة في منصبه لمدة توليه المهمة دون صحوة الضمير؟، كم من فاعل سياسي، جمعوي، يعمل بمقولة: “كم حاجة قضيناها بتركها”، براحة بال وظلت عملته طوال حياته.
بعض مدبري الشأن الجمعوي والسياسي والعام، يخشون المجازفة بالمبادرات الغير مضمونة النتائج، لا يمتلكون الشجاعة الكافية للمغامرة بمشاريع مبتكرة ويفضلون اجترار نفس نمط العمل الروتيني المريح في الظل، وتبقى دار لقمان على ما عليها. وهذا حال الجماعات الترابية وجل القرى النائية التي لم يتغير حالها منذ القرون البائدة.
أناس مستضعفون ولوا أمورهم لمسؤولين، جشعين بلا رحمة جشع النسور، ينتابهم الخوف من كل جانب، يعضون على الكراسي بالنواجذ، حريصين على المناصب والامتيازات أكثر من حرصهم على حياتهم. تترعد جوانبهم من التغيير، لأنه قد يحمل مفاجئات عكسية وتعصف بهم خارج دائرة السلطة. أصابت أعينهم غشاوة ولم يعودوا يفرقون بين المصلحة والمفسدة، تشابهت عندهم الأمور. المهم ان يرضى عنهم ولي أمرهم ولا يصيبهم أذى في المناصب.
فاز المصور كارتر بالجائزة “المستحقة” لقوة الصورة، ونال المال والشهرة، وتربع على عرش المصورين الصحفيين الأكثر قنصا للحظات المؤثرة. لكن لم تعد الشهرة والمال تعني له شيئا حين استيقظ الضمير، وأصبح يلوم نفسه عن اللامبالاة، وحمل ثقل الإنسانية ولم يستطع التخلص من الأحلام المرعبة، فارقه النوم، وغاص في أزمة نفسية حادة عصفت بحياته.
في انتظار صحوة ضمير البعض، دون العصف بالحياة، نجدد لكم اللقاء في الاستحقاقات المقبلة، مع الصورة في مشهد سريالي متقارب، صحبة الصقور البشرية الجائعة التي تقتات من فقر وبؤس الآخرين قناصي الفرص بلا هوادة.
إلى ذلك الحين، تصبحون على ضمائر حية وقيم أفضل.
*رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله