على بعد أيام قلائل عن بداية شهر رمضان الأعظم، وكما هو الحال مع كل مناسبة دينية أو اجتماعية تتميز بعادات استهلاكية خاصة، عاد موضوع التهاب أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية إلى تصدر قائمة النقاشات بين المغاربة، خصوصا البسطاء منهم وأصحاب الدخل المحدود. فيما صار يشبه دائرة مفرغة. الجديد هذه المرة هو تداول تصريحات تهم بعض الوزراء في الحكومة الحالية منهم السيد “رياض مزور”، وزير الصناعة والتجارة ينسب فيها مشكل ارتفاع الأسعار في الأسواق إلى ممارسات بعض المضاربين الذي يضاعفون الأرباح على حساب جيوب المواطنين خصوصا فيما يتعلق بأسعار اللحوم، التي لم تعد في متناول كل المغاربة.
جيد أن يصير التهاب الأسعار موضوع نقاش عمومي، وجميل أيضا أن يتم تزويد الناس بمعلومات مهمة بهذا الخصوص من قبل الجهات الرسمية. وجميل أيضا أن يكون هناك وعي نقدي لما يحدث. كل هذا يفيد في فهم ما يقع ووضع الأصبع على مكامن الخلل، لكنه لن يفيد في البلوغ إلى الحلول ما لم يتم تحديد المسؤوليات بدقة وبشكل هرمي، مع تطبيق القانون الجزري في حق كل متلاعب بجيوب المواطنين،كيفما كان حجمه، كبيرا او صغيرا.
الكل يعلم الآن أن المضاربة والتواطؤ والاحتكار والغش التجاري والاكتناز، إلخ. صارت ممارسات متحكمة في السوق الداخلية المغربية منذ أمد غير قريب. لكنها تواجه كلها بمسدسات بلاستيكية من قبل مؤسسات الدولة حينما نجدها تقتصر فقط على نشر بعض التقارير هنا وهناك حول هذه الاختلالات التي يدفع المواطنون ثمنها من جيوبهم في كل يوم مرات، أو بعض التصريحات المتفرقة، أو حتى بعض الحملات الموسمية المعزولة التي تستهدف التجار الصغار، فيما يظل كبار المتحكمين في السوق خارج دائرة المساءلة والمراقبة الحقيقية.
وهذا التعاطي يزيد من شراسة المتلاعبين بالأسواق ويفتح شهيتهم لمراكمة الأرباح بكل الوسائل المتاحة، لأنه يعطي الانطباع بأن المعاملات التجارية المرتبطة بالاستهلاك الداخلي اليومي لا تخضع لأية ضوابط، وبالتالي مجال التلاعبات فيها مفتوح على مصراعيه، بما أن هوامش الأرباح داخلها لا تحدها حدود.
هناك، إذن، مسؤولية تقصيرية واضحة للدولة في تفعيل التشريعات الضابطة للسوق بكل تأكيد، وهناك أيضا تضارب للمصالح داخل الحكومة، حينما تجد مسؤولا حكوميا يمارس أنشطة تجارية كبرى تذر عليه أرباحا طائلة، وبالتالي لا يمكن أن ننتظر منه سن تشريعات ذات انعكاسات سلبية على أرباح شركاته، أو التدخل لضبط معاملات قد يكون فيها إضرار بمصالحه. هناك أيضا مضاربون كبار لا يستطيع أحد الاقتراب من دوائرهم بسبب نفوذهم؛ لكن هناك أيضا الجشع والشراهة الربحية التي صارت سمة من سمات هذا المجتمع، بما لا شك فيه. فحيثما وضعت رجليك تجد المضاربون يتربصون بك من كل جانب، حتى صار كل واحد “شناقا” في مجاله. وصارت “تشناقت” هي الممارسة المتحكمة في السوق الداخلية وكل المعاملات الربحية بين المغاربة، لدرجة انه لم يعد يسلم من هذا حتى قطاعات اجتماعية وخدمات ذات بعد إنساني مثل التطبيب والتدريس والرعاية الاجتماعية…
جيد أن يفتح مسؤول حكومي نقاشا عموميا حول سلسلة المضاربين بأسعار اللحوم والأسماك مثلا، ليستبين المواطن البسيط حقيقة من يتحكم في قوت يومه، ومن يلهب جيوبه بأسعار لم يعد له بها طاقة. لكن مسؤولية الدولة أكبر من الإشارة بالأصبع لمكامن الداء في قطاعات دون أخرى. بل مسؤوليتها هي الحرص على حماية السوق من المدلسين والمتلاعبين بمحاربة كل الممارسات التجارية المخالقة للقوانين ومعاقية كل المتورطين فيها، حتى لا تتحول اضطرابات الأسواق الى اضطرابات اجتماعية، صرنا على شفا حفرة منها.
لا يعقل مثلا أن يتحدث مسؤول حكومي أو عمومي عن سلسلة المنتفعين من رفع أسعار اللحوم وبعض المواد الاستهلاكية الأساسية دون أن يربطها بما يحدث في قطاع المحروقات، الذي يعد إلى جانب التساقطات المطرية عاملا أساسيا من عوامل تحديد الأسعار في السوق الداخلية. هذا الأمر فيه نوع من التمويه والشعبوية السياسية التي لا يستقيم معها حال.
مشكل التهاب وانفلات الأسعار في المغرب، وإن كان في جزء منه مرتبط أيضا بوضعية السوق العالمية، مشكل هيكلي يقتضي بالدرجة الأولى لجم جماح كبار المضاربين والحسم مع الريع، وتداخل وتضارب المصالح، ومنح صلاحيات فعلية وحقيقية لمؤسسات الحكامة الاقتصادية…
في بداية مشواري المهني بسلك التعليم الثانوي، أي خلال اوائل الألفية الحالية، جمعتني ظروف العمل بأستاذ جليل ومهاب الجانب كنا نشترك في تدريس قسم مليء بالمشاغبين. سألته ذات مرة، أثناء فترة الاستراحة، عن سر قدرته التي يتحدث عنها الكل على ضبط تلامذة ذاك القسم الذي كان يفوق تعدادهم الأربعين فردا، جلهم من المتعثرين الذين يأتون للمدرسة من أجل تزجية الوقت فقط. فباح لي حينها بطريقة كانت مفيدة لي جدا فيما تبقى من سنوات العمل. قال لي بالحرف: خلال الحصص الاولى، أقوم بمسح عام واستطلاع أحاول من خلاله تحديد هوية التلميذ الأكثر شغبا والذي غالبا ما يكون هو قائد تلك المجموعة و”قدوتها”، وفي بعض الاحيان يكون هناك إثنان أو ثلاث. حينما اتمكن من تحديدهم أوجه كل جهدي نحوهم لضبطهم وتهذيبهم بمختلف الوسائل التربوية الرادعة. قد يتطلب هذا الامر بعض الوقت وبعض الجهد، لكنه يعطي أوكله خصوصا حينما يكون مرافقا بصرامة وجدية في أداء الواجب المهني. وهكذا، فبمجرد ما أتمكن من ضبط قائد المجموعة وإخضاعه لقانون القسم ينضبط الآخرون تلقائيا. لكن احذر العمل بمقولة عنترة بن الشداد ‘سر شجاعتي إنني أضرب الضعيف ضربة َ يطير لها قلب الشجاع’, فهذا يعطي عنك انطباعا سيئا بانك رجل غير عادل ومتسلط لا يستحق أدنى احترام وينتج عم ذلك بالتالي انفلاتات لا يمكن حصرها ولا التنبوء بعواقبها”.
سقت هذا المثال لأنه يبدو لي مساعد على فهم سياسة الدولة المغربية في تعاطيها مع اختلالات واضطرابات السوق الداخلية، واللبيب بالإشارة يفهم.