من مميزات المجتمعات المتخلفة انتشار السفاهة بشكل كبير وسطها. والسفاهة هي ضحالة العقل وخفته وعدم استطاعته التمييز بين الغث والسمين من المواضيع وأمور الحياة. وانعدام القدرة على ترتيب الأولويات حسب الأهمبة وتقدير حجم الفائدة والضرر من بعض الأفعال والأقوال.
فإن كانت السفاهة قد وُجدت عبر كل العصور، فإنها في عصرنا الحالي تفشت واستفحلت بسبب تعدد وسائل وأدوات تمييع العقول والأذواق وانتشار التفاهة من وسائط التواصل الاجتماعي والانترنت والهواتف المحمولة… فكلما ازدادت سفاهة المرء زادت رغبته في استهلاك التفاهة وإنتاجها. وكلما كان المرء سافها اضمحلت قدرته على التمييز بين المفيد لعقله وذاته ومحيطه والمدمر لهم. ولهذا تجد السفيه ينساق بسهولة وراء الأخبار الزائفة والمنشورات الهدامة والمحتويات الخاذعة، ويتأثر بسهولة بها فتتزعزع قناعاته وأفكاره وسلوكاته، حتى لا يكاد يستقر على حال.
وتشكل السفاهة خطرا كبيرا على الأفراد والجماعات. وإن المجتمعات التي تستفحل بينها السفاهة تصير عاجزة كليا على مسايرة تطورات العصر وتدخل من تلقاء نفسها في سيرورة تدمير ذاتها من الداخل وبالتالي تصير مهددة بالتفكك والاندثار.
ومن خطورة السفهاء على الغير كونهم لا يتوانون في إضاعة وقتهم وشغلهم بالتفاهات وسفاسف الأمور فقط، بل تجدهم أيضًا يتفننون في شحنهم بالانفعالات المؤذية وبالطاقة السلبية الهدامة. فقدرات البعض على السفاهة غير محدودة، ولأغلبهم طاقة لاختلاقها من الفراغ. لهذا فإن مجارتهم ومقارعتهم هدر للوقت والجهد. ومجادلة السفهاء خسارة كلها، فإن أنت غلبتهم لم تنل شيئا، لأن معاركهم في الأصل تافهة وفارغة، وإن هم غلبوك بدوت مثلهم.
فإذا كانت راحة العقلاء في وجود الحق وانتشاره، فالسفهاء يجدون ظالتهم في إذاعة الأباطيل وخلط الأوراق. ولكي تنطلي أباطيلهم على الناس، تراهم يلبسونها أردية تشبه الحقيقة أو تكاد. وديدنهم مع أصحاب الحق والعقل الطعن في نزاهتهم والإنقاص من شأنهم وتسفيه أقوالهم وأعمالهم، حتى يتساوى لدى العوام السفيه والعاقل ويختلط الحق بالأباطيل، ويصير لتراهات السفاء شأن. فالسفاهات في ظل انتشار الحق والحقيقة منبوذة لا قيمة لها، وبالتالي فإنها لا تنتعش إلا بين الرداءة والانحطاط والفوضى واللامنطق. كما ينتعش الذباب بين القاذورات.
فالعاقل ينافح عن الحق بالحجة والبرهان، حتى وإن كان ذلك معارض لمصلحته؛ أما السفيه فعدواني في دفاعه عن السفاهة والسفالة حتى وإن كانت مضرة به وبغيىه، عن قصد أو بدونه. ومن طباع السفاء استعظامهم لسفاسف الأمور وإقامة الدنيا من أجلها، مقابل احتقارهم لعظائم الأمور ولا مبالاتهم بالوقع المدمر لسفاهاتهم على أنفسهم ثم المحيطين بهم حتى وإن كانوا من أقرب المقربين. لهذا أجازت الشريعة الإسلامية التحجير على السفيه حتى لا تعم المفاسد وتضيع المصالح والحقوق. كما نجد أن المفكرين والعلماء والفقهاء يحذرون من خطورة السفهاء على الذات والأسر والمجتمع مع الدعوة إلى تفاذيهم. ويعتبر الإمام الشافعي، رحمه الله، في هذا الصدد قاصف جباه السفهاء. ومن أجمل ما قاله عنهم:
أعرِضْ عن الجاهلِ السّفيهْ ★ فكلُّ ما قال فهو فيه
ما ضرّ بحرَ الفراتِ يومًا ★ أن خاضَ بعضُ الكلابِ فيهْ!
فالحل مع السفهاء، كما قال الشافعي، يكمن في تجاهلهم والابتعاد عنهم وتركهم في سفاهتهم يعمهون إلى أن يعودوا عن غيهم (وهذا ناذر) أو يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ومعلوم أيضا لدى ذوي العقول الراجحة والفكر السديد انه لا يستقيم بنيان ولا مشروع ولا علاقة مع سفيه أبدا. وبالتالي فإن أمر إنشاء علاقات وطيدة ومستقرة مع السفهاء أشبه ما يكون بمن يشيد بنيانا فوق الماء، قد يخر سقفه فوق رأسه في أي حين، لأن السفيه بطبعه لا يقيم شأنا للبنيان حينما يتعكر مزاجه ولو لأتفه الأسباب، وقد لا يتردد في ضرب أعمدة ذاك البنيان لينهار على من فيه، غير آبه ولا مبال بعواقب فعله. ولهذا ينبغي تجنب السفهاء والصمت عن حماقاتهم درءا لمفاسدهم، بل ان الشافعي اعتبر ذلك شرفا كما قال:
والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ ★ وفيهِ أيضًا لصونِ العِرضِ إصلاحُ.
أما ترى الأُسْدَ تُخشى وهيَ صامتَةٌ ★ والكلبُ يخسى لَعَمْري وهو نبَّـــاحُ!!