*ذ.عبد السلام بوعسل
تعد أنظمة التقاعد إحدى الركائز الجوهرية في منظومة الحماية الاجتماعية، إذ تشكل آلية أساسية لضمان العيش الكريم لفئة المتقاعدين بعد انتهاء مسارهم المهني، فهي تؤدي وظيفة مزدوجة تجمع بين البعد التضامني والاجتماعي من جهة، باعتبارها تجسد مبدأ التكافل بين الأجيال وتضمن الحد الأدنى من الدخل لفئات عريضة من المجتمع، والبعد الاقتصادي والمالي من جهة أخرى، بحكم ارتباطها المباشر بالادخار الوطني وتوظيف جزء مهم من رؤوس الأموال في الاقتصاد، ومن ثمة فإن أي اختلال يصيب هذه المنظومة لا يقتصر على الجانب الاجتماعي، بل يمتد ليؤثر في التوازنات المالية والاستقرار الاقتصادي للدولة.
غير أنّ واقع أنظمة التقاعد في المغرب يشهد منذ سنوات أزمة بنيوية متفاقمة، تتجلى في العجز المتزايد واستنزاف الاحتياطات المالية في آجال زمنية متفاوتة بين مختلف الصناديق، الأمر الذي ينذر بتهديد استدامتها على المدى المتوسط والبعيد، وقد زاد من حدة هذه الأزمة تداخل عدة عوامل، منها التحولات الديموغرافية المرتبطة بارتفاع أمد الحياة وتراجع نسب الخصوبة، والخلل القائم في بنية سوق الشغل بفعل اتساع دائرة القطاع غير المهيكل، فضلًا عن تأخر الدولة في تسديد التزاماتها المالية تجاه بعض الصناديق، كل ذلك جعل مسألة إصلاح أنظمة التقاعد أولوية قصوى في الأجندة الحكومية، خاصة في ظل الإصلاحات الكبرى المرتبطة بتوسيع ورش الحماية الاجتماعية.
وفي هذا السياق، أصدر مرصد العمل الحكومي تقريرا تحت عنوان: صناديق التقاعد في المغرب، الواقع والتحديات، سعى من خلاله إلى تشخيص الوضعية الراهنة لهذه الصناديق، عبر إبراز معالم الأزمة وأسبابها، ورصد مسار الإصلاحات المقياسية التي اعتمدتها الحكومات السابقة منذ سنة 2016، مع تقديم جملة من التوصيات الرامية إلى بلورة رؤية إصلاحية شاملة توازن بين الاستدامة المالية والعدالة الاجتماعية.
وتأتي هذه الدراسة لتقديم قراءة تحليلية نقدية لمضامين التقرير، من خلال إبراز نقاط قوته وحدوده، ومساءلة مدى قدرته على الإحاطة بجوانب الأزمة ذات الأبعاد المالية والاقتصادية والاجتماعية، والديموغرافية، ثم استشراف آفاق تطوير مقاربته البحثية والإصلاحية بما يساهم في إغناء النقاش الأكاديمي والعمومي حول ورش إصلاح التقاعد بالمغرب.
وفي ذات السياق تبرز الإشكالية التالية: إلى أي حد استطاع التقرير المذكور أن يقدم تشخيصا علميا متكاملا لأزمة صناديق التقاعد بالمغرب؟ وهل وفّق في اقتراح حلول واقعية قادرة على ضمان استدامتها وتحقيق العدالة الاجتماعية بين مختلف الفئات المستفيدة؟
وللإجابة عن سؤال الإشكالية سوف نعتمد المنهج الثنائي الفرنكفوني، الذي يجمع بين التحليلي، المقارن، الاستقرائي، والدراسة النقدية.
فقد أبرز التقرير عدة عناصر إيجابية يمكن اعتبارها من نقاط قوته، ولعل أهمها ما يلي:
تشخيص وصفي دقيق، فالتقرير اعتمد على معطيات رقمية أساسية تتعلق بالعجز المالي، وأمد الاستدامة، وحجم الاحتياطات المتوفرة لدى مختلف صناديق التقاعد، وهو ما منح تحليله مصداقية وموضوعية، لكون الأرقام والمؤشرات تشكل أساس كل تقييم علمي موضوعي. وفي هذا السياق يؤكد بعض الفقه أن الاعتماد على المؤشرات المالية والديموغرافية الدقيقة هو السبيل الوحيد لقياس حجم المخاطر التي تتهدد استدامة أنظمة التقاعد، وتجاوز الطابع الانطباعي أو الخطاب السياسي، ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن التقرير نجح في تقديم أرضية كمية تساعد على إدراك حجم الأزمة بأبعادها الواقعية.
ويعزز هذا الموقف ما جاء في المبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن الحماية الاجتماعية، التي تنص على ضرورة أن تقوم السياسات الاجتماعية على بيانات دقيقة وموثوقة، بما يضمن قدرة الأنظمة على تحقيق الاستدامة والعدالة بين الأجيال، وكذلك ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يؤكد على حق كل فرد في الأمن الاجتماعي والحماية الاقتصادية، وهو ما يتطلب تحليلا موضوعيا للقدرات المالية وأنظمة الضمان الاجتماعي
تأريخ لمسار الإصلاحات، فقد قدم التقرير صورة متكاملة عن مسار الإصلاحات المقياسية منذ سنة 2016، سواء تعلق الأمر برفع سن التقاعد أو الزيادة في نسب الاقتطاع، أو اعتماد معدل أجر الثماني سنوات الأخيرة في احتساب المعاش، ويعتبر هذا الجانب مهما لأنه يضع القارئ في سياق زمني يسمح بفهم تطور السياسات العمومية في هذا المجال، وفي هذا الإطار يشير أحد أبرز فقهاء القانون الاجتماعي في فرنسا، إلى أن إصلاح أنظمة التقاعد لا يمكن أن يدرس في معزل عن تاريخه، لأن كل تعديل مقياسي هو نتاج تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية متشابكة.
ويعزز هذا الموقف ما ورد في المعايير الدولية لمنظمة العمل الدولية المتعلقة بسياسات التقاعد، التي تشدد على أهمية دراسة تطور الأنظمة وتقييم الإصلاحات ضمن إطار زمني طويل الأمد لضمان استدامتها وعدالتها بين الأجيال، كما يؤكد الميثاق الاجتماعي الأوروبي على ضرورة وضع السياسات الاجتماعية ضمن سياق تاريخي وفهم تراكم الإصلاحات لضمان حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد.
ومن ثم، فإن إدراج البعد التاريخي ضمن التقرير يسهم في تعزيز القراءة التراكمية للإصلاحات، ويمكن صناع القرار والباحثين من التمييز بين التدابير المؤقتة والإصلاحات الجوهرية، وفهم أثر كل تعديل على استدامة النظام الكلي.
مقاربة شمولية نسبية، فالتقرير لم يقتصر على تحليل الجوانب المالية البحتة، بل أشار أيضا إلى أبعاد مؤسساتية وسياسية، خصوصا ما يرتبط بدور الحوار الاجتماعي في بلورة الإصلاحات، وهو ما يعكس استيعابا للطابع المتعدد الأبعاد لأزمة التقاعد، فقد ذهب بعض الفقه إلى أن التقاعد ليس مجرد تقنية مالية لضمان معاش بعد نهاية الخدمة، بل هو ملف مجتمعي بامتياز، تتداخل فيه اعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية وديموغرافية، وبذلك، فإن إدماج التقرير للبعد المؤسساتي والسياسي يعد من عناصر قوته مقارنة بتقارير اقتصرت على الجوانب الحسابية.
ويعزز هذا الرأي ما جاء في الإعلان العالمي للضمان الاجتماعي، الذي صدر عن منظمة العمل الدولية عام 1952، والذي ينص على ضرورة أن تصمم أنظمة الضمان الاجتماعي بحيث تعكس البعد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بما يضمن حقوق الأفراد والمجتمع على حد سواء، كما يشير الميثاق الاجتماعي الأوروبي إلى أن السياسات المتعلقة بالضمان الاجتماعي يجب أن تدرج ضمن حوار مؤسساتي متوازن، لضمان مشاركة جميع الأطراف المعنية.
فالتقرير إذن يجسد مقاربة نسبية شمولية، تجمع بين التحليل المالي الدقيق وفهم السياق المؤسساتي والسياسي، وهو ما يمنحه مصداقية أكبر مقارنة بتقارير اقتصرت على الحسابات والإحصاءات المالية وحدها.
أخيرا، اقتراحات عملية، فالتقرير يمتاز بأنه لم يكتف بالتشخيص التحليلي لأزمة التقاعد، بل قدم مجموعة من التوصيات العملية، التي ركزت على إعادة هيكلة الأنظمة، وتحسين مردودية الاستثمارات، ووضع قانون إطار للإصلاح. ويعكس هذا التوجه رغبة واضحة في البحث عن حلول مؤسساتية طويلة الأمد، تتجاوز الحلول العاجلة أو الجزئية، بما يضمن استدامة الأنظمة ومرونتها أمام التحولات الاقتصادية والديموغرافية.
وفي هذا السياق، يؤكد الفقه الفرنسي في القانون الاجتماعي أن القيمة العلمية لأي تقرير أو دراسة لا تقاس بقدرتها على توصيف الأزمة فقط، بل بمدى نجاحها في صياغة بدائل واقعية قابلة للتطبيق، وهو ما يجعل توصيات التقرير ذات بعد عملي مهم، حيث يمكن أن تشكل قاعدة لمراجعة السياسات العمومية وصياغة إصلاحات ملموسة.
والمبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن استدامة أنظمة التقاعد، شددت على أن الإصلاحات الفعالة يجب أن تتضمن حلولا قابلة للتطبيق، تجمع بين البعد المالي، المؤسساتي والاجتماعي، مع ضمان الشفافية والمساءلة، كما أشار الميثاق الاجتماعي الأوروبي إلى أن الأنظمة الاجتماعية يجب أن تصاغ بطريقة تمكن من الاستجابة للأزمات المستقبلية عبر حلول عملية، قابلة للتقييم والتطوير.
ومن ثم، يمكن القول إن التقرير لم يقتصر على التوصيف الرقمي أو التاريخي للإشكالية، بل قدم جملة من الحلول العملية التي يمكن أن تشكل منطلقا لنقاش عمومي أوسع حول الإصلاح، وتساهم في ترسيخ ثقافة الإصلاح المستدام الذي يجمع بين الفعالية والعدالة الاجتماعية.
ورغم أهميته في تسليط الضوء على أزمة أنظمة التقاعد، فإن التقرير لم يخل من عدة نواقص جوهرية يمكن تسجيلها، والتي تعكس محدودية المنهجية المعتمدة في مقاربة موضوع بهذا التعقيد:
غلبة الطابع الوصفي، فالتقرير انصب أساسا على تقديم أرقام ومعطيات تقنية تتعلق بالميزانيات، عدد المستفيدين، ومتوسطات الأعمار، دون أن يواكب ذلك بتحليل اقتصادي وديموغرافي معمق، فمجرد عرض الأرقام لا يكفي في مقاربة أزمة بنيوية كأزمة التقاعد، إذ يقتضي الأمر استحضار الأبعاد الماكرو-اقتصادية والاجتماعية المرتبطة بشيخوخة السكان وتباطؤ معدلات الخصوبة، كما يشير بعض الفقه إلى غياب التحليل الديموغرافي يجعل من أي مقاربة إصلاحية ناقصة، لأن التقاعد في جوهره مرآة للتحولات السكانية والاجتماعية.
وفي هذا السياق، يشير بعض فقهاء القانون الاجتماعي إلى أن غياب التحليل الديموغرافي يجعل من أي مقاربة إصلاحية ناقصة، لأن التقاعد في جوهره مرآة للتحولات السكانية والاجتماعية، ويجب أن يرتبط بأي إصلاح بالبيانات السكانية الدقيقة، ويعزز هذا الرأي ما نصت عليه المبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن حماية الضمان الاجتماعي، والتي تؤكد على أن السياسات الاجتماعية يجب أن تستند إلى بيانات ديموغرافية ومالية دقيقة، لضمان استدامة البرامج وحماية الفئات الضعيفة.
كما ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق كل فرد في الأمن الاجتماعي والحماية الاقتصادية، ما يقتضي دراسة متأنية للقدرة المالية لأنظمة التقاعد لضمان تمتع جميع المواطنين بحقهم في الحماية الاجتماعية، ومن ثم فإن الطابع الوصفي وحده لا يكفي، بل يجب دمج التحليل الكمي مع استشراف التطورات السكانية والاقتصادية لضمان فعالية أي إصلاح.
غياب المقاربة المقارنة، فالتقرير لم يدرج أي استلهام للتجارب الدولية الناجحة في إصلاح أنظمة التقاعد، في حين أن الدراسات المقارنة تشكل أداة أساسية في رسم السياسات العمومية، فالنموذج السويدي مثلا، الذي اعتمد نظام النقاط مكنه من تحقيق توازن مالي طويل الأمد، بينما وفر النموذج الكندي المبني على الصندوق السيادي آلية لاستدامة التمويل عبر استثمار احتياطيات التقاعد في الأسواق المالية العالمية.
وفي هذا السياق، يؤكد الفقه الفرنسي أن النجاعة في إصلاح أنظمة التقاعد تتطلب استلهام الحلول المبتكرة من تجارب الدول التي واجهت تحديات مماثلة، لأن التجربة المقارنة توفر رؤية عملية لمآلات السياسات وتساهم في تجنب الأخطاء المتكررة، كما تنص المبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن إصلاح أنظمة التقاعد على أن تتطلب صياغة الإصلاحات الفعالة دراسة التجارب الدولية لتوفير بدائل قابلة للتطبيق وضمان استدامة الأنظمة.
وبالتالي، يغيب عن التقرير عنصر المقاربة المقارنة، وهو ما يقلل من قدرته على اقتراح حلول متوازنة وعملية، مقارنة بالتقارير التي استفادت من التجارب الدولية لإثراء التحليل وصياغة التوصيات.
أخيرا تسييس التحليل، فلا يخفى أن التقرير صدر عن هيئة ذات صلة مباشرة بالسياسات الحكومية، وهو ما جعل التحليل ينزاح في بعض جوانبه نحو خطاب نقدي موجه أكثر منه تحليلا موضوعيا متوازنا، فالطابع الأكاديمي يقتضي قدرا من الحياد والموضوعية، بعيدا عن الاصطفاف السياسي، وهنا يمكن القول إن التحليل القانوني والسياساتي لا يمكن أن يكتسي طابعا علميا إلا إذا تحرر من الحسابات السياسية الضيقة.
وهو ما نصت عليه المبادئ الدولية للشفافية والمساءلة في السياسات العمومية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، التي تشدد على أن أي تحليل للسياسات العامة يجب أن يقوم على أسس موضوعية وبيانات دقيقة، مع مراعاة حياد الباحث أو المؤسسة، لضمان مصداقية التوصيات.
ومن ثم، فإن غياب هذا الحياد النسبي في التقرير يجعل من الصعب الاعتماد عليه كمرجع علمي محايد، ويبرز الحاجة إلى الفصل بين التحليل الأكاديمي والسياساتي لضمان تقديم صورة متوازنة حول إصلاحات التقاعد.
تهميش البعد الاجتماعي، فرغم أن العدالة الاجتماعية تشكل جوهر أي إصلاح تقاعدي، فإن التقرير لم يول العناية الكافية لأثر الإصلاحات المقترحة على الفئات الهشة والمتقاعدين ذوي الدخل المحدود، وكذا على الطبقة الوسطى التي تتحمل النصيب الأكبر من الاقتطاعات، وهو ما يخالف جوهر فلسفة دولة الرعاية التي تقتضي مراعاة الفئات الضعيفة، وفي هذا يشير الفقه إلى أن كل إصلاح تقاعدي لا يضع في صلبه العدالة الاجتماعية، يبقى مجرد عملية محاسبية جافة تفتقد للمشروعية المجتمعية.
كما تؤكد المبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن نظم التقاعد المستدامة على ضرورة أن تراعي الإصلاحات حماية الفئات الضعيفة وضمان العدالة بين الأجيال، ويعزز هذا الموقف ما جاء في الميثاق الاجتماعي الأوروبي، الذي يؤكد على أن أنظمة الضمان الاجتماعي يجب أن توفر حماية عادلة لجميع الفئات الاجتماعية.
ومن ثم، فإن تهميش البعد الاجتماعي في التقرير يقلل من قدرته على تقديم حلول شاملة ومتوازنة، ويبرز الحاجة إلى دمج تحليل الأثر الاجتماعي ضمن أي مراجعة لإصلاحات التقاعد لضمان الاستدامة والعدالة.
ضعف الرؤية الاستراتيجية، فقد اقتصر التقرير على أفق زمني محدود بين 2028 و2052، وهو ما يحول دون مواكبة التحولات العميقة المرتقبة في البنية السكانية للمغرب، خصوصا مع تزايد معدلات الشيخوخة وتراجع نسب الإعالة، في المقابل تؤكد الدراسات المستقبلية أن الإصلاح الناجع يقتضي أفقا استراتيجيا يتجاوز نصف قرن على الأقل، وفي هذا السياق يذهب الفقه إلى أن غياب التخطيط بعيد المدى في السياسات الاجتماعية يفرغ الإصلاح من نجاعته، ويحوّل التدابير إلى مجرد حلول ترقيعية مؤقتة لا تضمن استدامة النظام.
كما تدعم المبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن نظم التقاعد المستدامة هذه الرؤية، إذ تنص على أن إعداد إصلاحات الضمان الاجتماعي يجب أن يكون ضمن أفق طويل المدى، مع مراعاة التغيرات الديموغرافية والاقتصادية لضمان استدامة البرامج وحماية المستفيدين، ويؤكد الميثاق الاجتماعي الأوروبي على ضرورة وضع أنظمة الضمان الاجتماعي ضمن خطط استراتيجية تراعي الاستدامة المستقبلية.
ومن ثم، فإن غياب رؤية استراتيجية ممتدة يحد من قدرة التقرير على اقتراح إصلاحات شاملة وقابلة للاستدامة، ويبرز الحاجة إلى إدراج أفق طويل المدى في أي مراجعة سياسية أو إصلاحية لأنظمة التقاعد.
كما يبرز التقرير عدة فرص مهمة للإصلاح، تشكل نقاط قوة يمكن استثمارها لتعزيز استدامة نظام التقاعد وتحقيق العدالة الاجتماعية، من أبرزها:
التوافق الاجتماعي الناتج عن اتفاق 30 أبريل 2022، حيث يشير التقرير إلى أن اتفاق 30 أبريل 2022 بين الحكومة والنقابات يمثل فرصة مهمة لترسيخ إصلاحات التقاعد في إطار حوار اجتماعي متوازن، يضمن مشاركة جميع الأطراف المعنية ويقلل من الاحتكاكات السياسية والاجتماعية، ويؤكد الفقه المغربي أن الحوار الاجتماعي هو أداة أساسية لتحقيق العدالة بين المتقاعدين والدولة، ويجعل الإصلاحات أكثر شرعية وقبولا من قبل المجتمع، كما أن الفقه المقارن في فرنسا وأوروبا يشدد على أهمية التوافق الاجتماعي لضمان استدامة الإصلاحات المالية والاجتماعية.
إمكانية توجيه الاستثمارات نحو الاقتصاد الوطني المنتج، فالتقرير يبرز أن إعادة توجيه احتياطيات صناديق التقاعد نحو مشاريع الاقتصاد الوطني المنتج يمثل فرصة لتعزيز مردودية الاستثمارات وضمان استدامة التمويل، مع دعم التنمية الاقتصادية المحلية. وفي هذا السياق، يشير الفقه القانوني المغربي إلى أن الاستثمار المستدام في الاقتصاد الوطني يعد جزءا من واجب الدولة في حماية أموال المساهمين وضمان استمرارية التمويل الاجتماعي، كما تؤكد المبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن استدامة أنظمة التقاعد على أن توجيه الاستثمارات نحو قطاعات منتجة يسهم في تعزيز الكفاءة المالية والاجتماعية للأنظمة.
الاستفادة من التحول الرقمي للحد من الهدر والفساد، حيث يؤكد التقرير أن الرقمنة في إدارة صناديق التقاعد والعمليات المالية المرتبطة بها تمثل فرصة مهمة للحد من الهدر والفساد، وضمان شفافية أكبر في صرف المعاشات، وفي هذا يذهب الفقه المغربي إلى أن تبني التكنولوجيا الرقمية في الإدارة المالية والاجتماعية يعزز من الفعالية والشفافية ويحد من مظاهر الفساد وسوء التدبير، وهو ما يتوافق مع توصيات الميثاق الدولي للشفافية في الإدارة المالية العامة الصادر عن الأمم المتحدة، الذي يشدد على أن الرقمنة ودمج نظم المعلومات الحديثة جزء لا يتجزأ من حماية المال العام وضمان المساءلة.
وبذلك، يقدم التقرير قراءة متوازنة لفرص الإصلاح، تجمع بين البعد الاجتماعي، الاقتصادي، والتكنولوجي، بما يفتح آفاقًا للتدخلات المتكاملة التي تحقق استدامة الأنظمة وحماية الحقوق الأساسية للمستفيدين.
ورغم ما يقدمه التقرير من توصيف وتحليل لبعض الفرص، تظل التحديات قائمة في حالة الاقتصار على المقاربة الحالية، وهو ما يستدعي تدخلا أوسع وأفقا استراتيجيا أطول لضمان استدامة نظام التقاعد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وأبرز هذه التحديات تتجلى في:
احتمال انهيار بعض الصناديق خلال عقد واحد، يشير التقرير إلى هشاشة بعض صناديق التقاعد التي تواجه عجزًا ماليًا متزايدًا، ما قد يؤدي إلى استنزاف احتياطياتها خلال فترة قصيرة، لا تتجاوز عقدا من الزمن، إذا لم يتم اتخاذ إصلاحات هيكلية عاجلة، وفي هذا يرى الفقه المغربي أن أي نظام تقاعدي يفتقد للتوازن المالي والاستدامة الإدارية يصبح عاجزا عن الوفاء بالتزاماته، وهو ما يهدد الحماية الاجتماعية للمواطنين ويستدعي إجراءات استباقية، كما يؤكد الفقه المقارن الفرنسي أن التحليل المالي الدقيق والمتابعة المستمرة لاحتياطيات صناديق التقاعد هما الضمانة الوحيدة لتجنب الانهيار المالي المفاجئ للنظام.
فقدان الثقة المجتمعية في التقاعد كآلية للحماية الاجتماعية، حيث إن استمرار العجز المالي أو عدم وضوح الإصلاحات قد يؤدي إلى تآكل الثقة بين المواطنين والدولة، بحيث ينظر إلى نظام التقاعد على أنه غير قادر على توفير حماية اجتماعية حقيقية، وفي هذا الصدد يشير الفقه المغربي إلى أن الثقة المجتمعية هي ركيزة أساسية لاستدامة أي نظام اجتماعي، وأي تقويض لها يؤدي إلى فقدان شرعية النظام وتقليل الالتزام بالاشتراكات، وتؤكد المبادئ الدولية للضمان الاجتماعي الصادرة عن منظمة العمل الدولية على ضرورة أن تصاغ إصلاحات التقاعد بطريقة تحافظ على الثقة بين المستفيدين والدولة.
بروز احتجاجات اجتماعية نتيجة تحميل الأجراء وحدهم عبء الإصلاح، بحيث يشير التقرير إلى أن أي اعتماد حصري على الاقتطاعات من الأجراء لتمويل الإصلاحات سيؤدي إلى توترات اجتماعية واحتجاجات، خصوصا إذا لم تراع العدالة بين الأجيال والفئات الاجتماعية المختلفة، وفي هذا السياق يذهب الفقه المقارن إلى أن تحميل فئة واحدة وحدها أعباء الإصلاح يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي ويقلل من قابلية تنفيذ الإصلاحات بنجاح، كما يؤكد الميثاق الاجتماعي الأوروبي على ضرورة توزيع الأعباء بشكل عادل بين جميع الأطراف المعنية لضمان قبول الإصلاحات الاجتماعية.
ومن ثم، تبرز الحاجة الملحة إلى اعتماد مقاربة شمولية تجمع بين التحليل المالي والاجتماعي والمؤسساتي، وتستند إلى أفق زمني طويل، مع إشراك جميع الأطراف المعنية عبر الحوار الاجتماعي، لتجاوز هذه التحديات وضمان استدامة نظام التقاعد وتحقيق العدالة المجتمعية.
إن قراءة التقرير الصادر عن مرصد العمل الحكومي حول صناديق التقاعد بالمغرب تكشف عن مزيج من الإنجازات والإكراهات، تعكس واقع أنظمة التقاعد بين الحاجة الملحة للإصلاح والتحديات البنيوية التي تواجهها. فمن جهة، يبرز التقرير دقة التشخيص وصحة البيانات المالية والديموغرافية، وإبراز مسار الإصلاحات السابقة، إضافة إلى مقاربة شمولية نسبية تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاقتصادية، الاجتماعية، والمؤسساتية، ومن جهة أخرى تظهر محدودية المقاربة الحالية من خلال الطابع الوصفي وغياب الاستلهام من التجارب المقارنة وتسييس التحليل وتهميش البعد الاجتماعي وضعف الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى.
إن هذه النقائص تجعل من الصعب الاعتماد على التقرير كمرجع وحيد لتحديد سياسات إصلاحية مستدامة، لكنها في الوقت نفسه تتيح فرصة لتوسيع النقاش حول الإصلاح الشامل لنظام التقاعد، وإثراء الدراسات المستقبلية بما يعالج أبعاد الأزمة المختلفة، ويؤكد الفقه القانوني المغربي والمقارن، إضافة إلى المواثيق الدولية، على أن إصلاح أنظمة التقاعد ينبغي أن يستند إلى معطيات دقيقة وموضوعية، ويحافظ على العدالة الاجتماعية، ويأخذ بعين الاعتبار البنية الديموغرافية طويلة المدى، كما يشدد على ضرورة إشراك كافة الأطراف عبر الحوار الاجتماعي لضمان شرعية الإصلاح وقبوله المجتمعي.
وفي الختام يمكن صياغة المقترحات التالية:
تعزيز التحليل الاقتصادي والديموغرافي من خلال إدراج دراسات مستقبلية دقيقة حول الشيخوخة وتغير نسب الإعالة، لتحديد أفق استدامة الأنظمة بما يفوق العقدين القادمين، وفق المبادئ التوجيهية لمنظمة العمل الدولية بشأن نظم التقاعد المستدامة.
اعتماد المقاربة المقارنة بالعمل على الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، مثل النظام السويدي القائم على النقاط، أو النظام الكندي المبني على الصندوق السيادي، لتقديم بدائل عملية ومبتكرة تضمن استدامة التمويل وتحافظ على العدالة بين الأجيال.
ضمان حياد التحليل واستقلاليته بفصل البحث الأكاديمي عن الحسابات السياسية، بما يتيح تقديم توصيات محايدة وقابلة للتطبيق، وفق معايير الشفافية والمساءلة الدولية.
التركيز على البعد الاجتماعي والعدالة بين الفئات من خلال مراعاة الفئات الهشة والمتقاعدين ذوي الدخل المحدود، وضمان عدم تحميل الأجراء وحدهم أعباء الإصلاح، بما ينسجم مع فلسفة دولة الرعاية والمبادئ الواردة في الميثاق الاجتماعي الأوروبي.
تعزيز الاستدامة المالية عبر الاستثمار والتقنيات الرقمية من خلال إعادة توجيه احتياطيات صناديق التقاعد نحو الاقتصاد الوطني المنتج، مع الاستفادة من التحول الرقمي لتحسين الشفافية وتقليل الهدر والفساد.
وضع رؤية استراتيجية طويلة المدى باعتماد أفق زمني يمتد لما بعد 2052، يسمح بمتابعة التحولات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وضمان استدامة النظام على المدى البعيد.
وختاما، فإن إصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب يتطلب رؤية شاملة ومتوازنة، تجمع بين الدقة العلمية، العدالة الاجتماعية، المشاركة المجتمعية، والاستدامة المالية. ويظل التقرير الصادر عن مرصد العمل الحكومي خطوة أولى مهمة، لكنه يحتاج إلى تطوير معمق ليصبح قاعدة علمية وسياسية قوية لإصلاح هذه المنظومة الحيوية.