*حسن مزوزي
تأكد بعد تجربة خمس سنوات من التطبيق أن التخوف الذي صاحب تنزيل المادة التاسعة من قانون المالية لسنة 2020 أنه لم يكن تنظيرًا أكاديميًا بل تنبؤًا واقعيًا أصبح معه التنفيذ في مواجهة الدولة و الجماعات الترابية شبه متعذر، وتحولت معه الحجج المالية إلى مبررات لتعطيل أحكام قضائية حائزة لقوة الشيء المقضي به. فقد حذر الفاعلون القانونيون آنذاك من كون المقتضى المذكور فضلا عن كونه فارس موازناتي cavalier budgétaire لا تستسيغه نصوص قانون المالية بأنه يتعارض مع الفصل 126 من الدستور الذي ينص على أن الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع، أفرادًا وإداراتٍ ومؤسسات.
إن الفصل التاسع المذكور يقضي بأن على الدائنين الحاصلين على أحكام قضائية نهائية ضد الدولة أو الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية، ألا يُتّخذوا أي إجراء للتنفيذ الجبري على أموال هذه الهيئات. وأن المبالغ المحكوم بها لهم تؤدى في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة لهذا الغرض في الميزانية، وفي حالة عدم توفر الاعتماد اللازم، يتم الأداء خلال السنة المالية الموالية، دونما حاجة إلى اللجوء إلى الحجز على ممتلكات الدولة أو الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية . و قد برر المشرّع هذا المقتضى بضرورة صون المال العام وحماية استمرارية المرفق العام حتى لا يؤدي الحجز على أموال الدولة إلى شلّ نشاط المرافق العمومية أو عرقلة المشاريع التنموية. وبذلك تم تقديم النص في صورة “تنظيم عقلاني” لعملية التنفيذ، لا كإعفاء مطلق من الالتزامات القضائية .إلا أنه بالرغم من وجاهة الهدف المالي المعلن، فإن الأثر العملي للمادة التاسعة المذكورة كان على النقيض من فلسفة العدالة الدستورية حين جعل الدولة خصمًا يتمتع بـ”حصانة مالية” في مواجهة المتقاضين، وهو ما يتعارض مع مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في الفصل السادس من الدستور.
فالأحكام القضائية التي تصدر لفائدة المواطنين ضد الدولة و الجماعات الترابية و المؤسسات العمومية أصبحت في الواقع العملي معلقة التنفيذ من حيث الزمان ، رهينًة بوجود اعتمادات مالية أو بإرادة الآمر بالصرف الذي أصبح المتحكم في برمجة الأحكام القضائية بإرادته المنفردة و تجاوزت بذلك اختصاصاته في هذا الصدد , صلاحية رئيس المحكمة بصفته قاضيا للتنفيذ بعد أن تحوّل معه التنفيذ في مواجهة الدولة من واجب قانوني إلى مسألة تقديرية ، وتعذر على القاضي فرض احترام أحكامه بوسائل التنفيذ الجبري المعتادة (كالحجز أو الغرامة التهديدية) و هي وضعية لا تساعد على تعزيز ثقة المواطنين في العدالة , و هو الهدف الذي من أجله أحدثت محاكم إدارية مختصة . فما الجدوى من حصول المواطن على حكم لن يتمكن من تنفيذ مقتضياته بطرق مستساغة قانونيا وفي آجال معقولة ؟ و ما معنى تذرع الدولة بعدم توافر الاعتمادات المالية بعد أن تحولت معه إلى “ خصم يقضي لنفسه”.
لقد أصبح الآمر بالصرف صاحب الحل و العقد في رسم باب الميزانية لتنفيذ الأحكام القضائية في مواجهة الدولة و الجماعات الترابية و المؤسسات العمومية في غياب أي رقابة على قراراته حتى من طرف السلطة الوصية فيما يخص ميزانيات الجماعات الترابية أفرز عن فراغ مسطري من الناحية العملية أمام قاضي التنفيذ، الذي لم يعد بإمكانه تطبيق المساطر التنفيذية التقليدية ضد الإدارة. فلا يمكنه توقيع حجز، ولا فرض غرامة تهديدية، ولا حتى إلزام الإدارة بجدول زمني محدد للأداء , وبالتالي تحولت ملفات التنفيذ في مواجهة الدولة و الجماعات الترابية و المؤسسات العمومية إلى ملفات “راكدة”، تتنازعها الاعتبارات المالية والمحاسباتية , بقي معها المتقاضي تائها في ظل وضع توزعت فيه المسؤولية بين الوزير المعني ، و الآمر بالصرف ، و الخازن العام للمملكة وأصبح معها التنفيذ رهينًا بإرادات إدارية لا تخضع لأي رقابة فعّالة.
والجدير بالذكر أن بعض المحاولات الجادة التي يحاول من خلالها القضاء الإداري إعادة الاعتبار لمسطرة التنفيذ في مواجهة الدولة لم تحقق الأهداف المرجوة منها بالنظر إلى مناعة الحصانة التشريعية التي خولها الفصل التاسع المذكور للإدارة . و أصبح من الضروري ابتكار آلية متوازنة تحقق المعادلة الصعبة بين احترام الأحكام وصون المال العام , من قبيل إحداث صندوق وطني لتنفيذ الأحكام القضائية ضد الدولة بتمويل سنوي قار يضمن الأداء الفوري دون المساس بالتوازنات المالية , أو إلزام الإدارات العمومية والجماعات الترابية بإدراج مبالغ الأحكام النهائية في ميزانياتها المقبلة بصفة آلية، أو تعزيز رقابة البرلمان المطوق بمساءلة ميزانية التكاليف المشتركة المعهودة إلى وزارة المالية بالنظر إلى حجم الأحكام الصادرة في مواجهة الدولة و الجماعات الترابية دون أن نغفل دور المجلس الأعلى للحسابات في مدى تنفيذ الإدارات للأحكام القضائية النهائية. والكل في إطار مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في حالة الامتناع غير المبرر عن التنفيذ.
لقد أدخل الفصل 9 مكرر من قانون المالية لسنة 2020 مسطرة التنفيذ في مواجهة الدولة والجماعات الترابية و المؤسسات العمومية في متاهة بين الالتزام الدستوري والاعتبار المالي. بعد أن تحوّل معه الحكم القضائي إلى وثيقة إثبات للحق دون قوة إنفاذ حقيقية، مما أفرز وضعية شاذة تساوى فيها الحكم الصادر والمنعدم من حيث الأثر العملي، وهو ما يناقض تمامًا مفهوم دولة الحق والقانون. فاحترام الأحكام هو عنوان لسيادة القانون وأي نصّ يُفرغه من مضمونه يُعيدنا إلى منطق السلطة بدل منطق العدالة، ومن ثمة، فإن إصلاح الوضع أصبح ضرورة تشريعية ملحة.
*باحث ومحامي بهياة القنيطرة



































































